ربما اختلفت ظروف أزمة صحيفة الدستور عن غيرها من أزمات الصحف الخاصة, لكنها وفي كل الأحوال, هي حلقة من حلقات مأزق الصحف الخاصة, التي بدأت بالبديل, ثم انتقلت إلي الطريق, وأخيرا الدستور, وكلها بدأت بأزمة مالية خانقة أدت إلي غلق الأولي وتعثر الثانية وبيع الثالثة. قبل الثورة كانت الصحافة الخاصة هي المنتشرة, والتي بدأت بصحيفة الأهرام العريقة, التي صدرت منذ ما يقرب من135 عاما, وتتابعت التجارب وصدرت المصري, والأخبار, والهلال, وروزاليوسف وغيرها من تلك التجارب الصحفية المتميزة, التي توقف بعضها مثل المصري, وحينما قامت الثورة أممت الصحف التي كانت تصدر آنذاك, وأصبحت مملوكة للدولة, وتم تعديل نمط ملكيتها عدة مرات حتي آلت ملكيتها لمجلس الشوري أخيرا. الصحافة الآن باتت صناعة ضخمة ومعقدة تحتاج إلي استثمارات بمئات الملايين, ونفس طويل من المستثمرين, وهي بالتالي تتطلب نوعية خاصة من المستثمرين الجادين الذين لهم علاقة حقيقية بالصحافة والثقافة والنشر, وليسوا مجرد مستثمرين عاديين يرغبون في المكسب السريع, أو حتي يرغبون في إيجاد كيانات صحفية أو إعلامية تساندهم في تحقيق مصالحهم وتلبية مطالب أجنداتهم الخاصة, ودعم مواقفهم التفاوضية مع الدولة أو الجهات المختلفة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية والمعنوية. لا توجد صحيفة خاصة واحدة في مصر حتي الآن يمكنها الاعتماد علي نفسها في الطبع والتوزيع, وربما في التحرير أيضا, فالطبع والتوزيع الخاص بكل الصحف الخاصة والحزبية بلا استثناء تقوم به الصحف القومية, لأنها هي التي تملك المطابع التي تتكلف الملايين, وشركات التوزيع الضخمة التي تتطلب استثمارات هائلة, وباستثناء عدة صحف لا تزيد علي اثنتين أو ثلاث علي أقصي تقدير, فإن باقي الصحف الخاصة تعتمد حتي في هياكلها التحريرية علي الصحف القومية أيضا, من خلال إسهامات أبناء هذه الصحف في إصدار الصحف الخاصة. يكفي أن نعرف أن مجلس إدارة الأهرام أخيرا قرر اعتماد مبلغ200 مليون جنيه تقريبا لكي تتمكن مؤسسة الأهرام من إجراء توسعات طباعية باتت ضرورية لاحتياجات الأهرام.. فما بالنا لو أن الأمر يتعلق بإنشاء نظام جديد للطباعة من الألف إلي الياء, وماذا عن إنشاء شركة للتوزيع تجوب مصر من الإسكندرية حتي أسوان من خلال شبكة توزيع نافذة إلي كل بقاع القطر المصري, وتكاليف شراء سيارات للتوزيع وتعيين أعداد ضخمة من السائقين والمندوبين والمفتشين, ومن يغامر بأمواله في كل هذه الاستثمارات الضخمة؟! المشكلة أن معظم التجارب الصحفية الخاصة, باستثناء3 حالات تقريبا الأسبوع والشروق والكرامة خرجت من عباءة رجال أعمال يبحثون عن المكسب والخسارة, ويتعاملون معها علي أنها مشروع تجاري في الأساس, وربما معنوي في بعض الأحيان, لكنه وفي كل الأحوال مرتبط بمقاييس المكسب والخسارة, وتلك هي أزمة الصحافة الخاصة الحقيقية التي تفتقر إلي فكرة المشروع الصحفي, كما كان الحال وقت إطلاق الصحف الخاصة قبل الثورة, كالأهرام والأخبار وروزاليوسف والمصري وغيرها, والتي كان أصحابها لا يملكون سواها وليس لديهم محافظ استثمار متنوعة في الصناعة والتجارة والزراعة والعقارات, ثم أضيف إليها الصحافة والإعلام, باعتبارهما من العوامل المساعدة علي زيادة النفوذ أو تحقيق المكاسب المادية في بعض الحالات. الصحافة والإعلام لدي بعض الملاك الجدد مثل السوبر ماركت, يمكن تغيير نشاطه وقت الضرورة, أو إذا اقتضت الظروف ذلك, كما حدث في الدستور, أو غلقها, كما حدث في حالتي البديل والطريق, وتلك هي المأساة التي يجب بحثها من خلال نقابة الصحفيين والمجلس الأعلي للصحافة لوضع الآليات اللازمة لضبط سوق الصحافة الخاصة, ووضع الضمانات اللازمة لحقوق الصحفيين والعاملين في تلك الصحف. يجب إعادة النظر في المادة(13) من القانون رقم96 لسنة1996 والخاص بتغيير سياسة الصحيفة, بحيث تتضمن قواعد واضحة في هذا الصدد وتفصيلات دقيقة عن شرط الضمير والتعويض للصحفي المتضرر. أيضا المادة(52) تحتاج إلي تطوير, بحيث تتم زيادة رأسمال الشركة المدفوع في حالة الصحف اليومية أو الأسبوعية, علي أن يتم إيداع هذه المبالغ في حساب خاص لدي أحد البنوك المصرية ولمصلحة نقابة الصحفيين كوديعة لا يتم الاقتراب منها إلا بمعرفة نقابة الصحفيين, ولمصلحة العاملين في تلك الصحف إذا حدثت أزمة انتهت إلي التعثر أو الإغلاق أو الفصل التعسفي, لتصبح نقابة الصحفيين هي الفاعلة والمتصرفة لمصلحة العاملين المتضررين. هي دعوة لكل أبناء الجماعة الصحفية لإعادة التفكير في العلاقة بين رأس المال وملكية الصحف ووسائل الإعلام, لكي نستفيد من التجربة الحالية ونتجاوز آثارها السلبية مستقبلا.