لو أن أحدا قال لنا منذ ستة شهور أن المشهد العام للسياسة المصرية سوف ينتهي إلي ما انتهي إليه لما صدقه أحد; وعندما كنت أطرح وجهة النظر حول هذه النهاية للعديد من المراسلين والباحثين الأجانب الذين لم يكفوا عن زيارة القاهرة كان العجب يظهر علي وجوههم من أن يكون كل ما استمعوا إليه من هوامش السياسة المصرية محض خيال, وعلي الأغلب كان يخطر ببالهم أن ما أقول به له علاقة بالمنصب والانتماء السياسي. كان المشهد السياسي كله ممتلئا بالبرق والرعد, وفصائل المعارضة التأمت كلها علي قلب رجل واحد كانت صورته قد استقرت ما بين شبكةCNN الأمريكية, ودريم المصرية, توضح المستقبل المصري الموعود. وكانت حركات الاحتجاج والقلق السياسي والاجتماعي تغطي بصوتها علي جهود عشرات الملايين من المصريين الذين يمارسون أعمالهم ويرعون أسرهم كل يوم. وكما أن لكل زمن, طال أو قصر, أشخاصه ورموزه فقد برزت أسماء وأدوار لم يكن أصحابها, ولا أصحابهم, يتصورون أن يطاولوا عنان السماء الشعبي خلال هذه الفترة الوجيزة, وهم يطالبون بحزم وعزم بما لا يقل عن انقلاب كامل في الحياة السياسية المصرية. وكانت المعادلة في نظرهم بسيطة للغاية, فما أن ينتهي قانون الطوارئ, ويتم تعديل الدستور بحيث يسمح للدكتور محمد البرادعي بالمشاركة المظفرة في الانتخابات الرئاسية, ويجري قبل ذلك بقليل تنفيذ مطالب صاحب نوبل السبعة, فإن الحياة في مصر سوف تتغير إلي الأبد حيث ينتهي الحديث عن التوريث وتسود الديمقراطية والمؤسسية والكفاءة ومعهما جميعا ينتهي الفساد, ويحصل الجميع علي الحرية والعدالة في إناء واحد يغترف منه الجميع كما شاء لهم الاغتراف. الفكرة البسيطة نأت تماما عن كل ما يعقدها, فلا ثقافة سياسية كانت موجودة, ولا بناء اقتصادي واجتماعي, ولا ظروف دولية مقلقة, ولا واقع معقدا بالتاريخ والتراث والقوانين والدساتير والعائلات والقبائل والأحزاب والإعلام والطموحات الشخصية المفزعة والأثقال غير المتوازنة. كانت الفكرة البسيطة بالطبع ملهمة خاصة بالنسبة للشباب, ولكن من عركوا أمر الشأن العام في مصر كانوا يعرفون أن الفكرة البسيطة كانت مخيفة في براءتها حينما تبدو مفارقة تماما لمقتضي الحال, ومرعبة في ذنبها عندما كانت تحاول تخطي الحدود بين الدولة والفوضي الكاملة. انتهي الأمر علي أي حال كما ينبغي له أن ينتهي في دولة مستقرة حيث تسود الزوابع والفقاعات والأصوات الهائجة والشعارات الرنانة, ثم بعد ذلك تعود الحال إلي ما كانت عليه من أصول لها جذور وأقدار معروفة. وبعد الضجيج الذي جري في طريق المقاطعة انتهي الأمر إلي المواجهة الانتخابية بين القوي الثلاث المشاركة فعلا في السياسة المصرية: الحزب الوطني الديمقراطي, وأحزاب الوفد والتجمع والناصري, وجماعة الإخوان المحظورة كجماعة والمشروعة كأفراد. وكأن شيئا لم يحدث طوال خمس سنوات, فالحزب الوطني يعقد مجمعاته الانتخابية لحل معضلة الكثرة من مرشحيه, والأحزاب المدنية الثلاثة تحاول استعادة ما سلب منها من قبل في أن تكون معارضة مدنية, و الجماعة ترفع شعار الإسلام هو الحل حتي لو كانت لا تزال تعبر عن تأييدها للبرادعي ومطالبه السبعة وتعتبر نفسها جزءا من الجمعية المصرية الوطنية الشعبية المدنية للتغيير. ومع ذلك فإن هناك من الجديد ما يثير التأمل قادم من التجربة ذاتها التي عاشتها البلاد طوال الشهور القليلة الماضية والتي كانت أشبه بمعمل تجري فيه التفاعلات التي يمكن مراقبتها والتعلم منها. ولحسن الحظ أن هناك من خرج من التجربة, وأراد أن يطرق الحديد وهو ساخن ويقدم مراجعات لما جري خلال فترة قصيرة لم تبرد نارها بعد, ولا ذهبت آثارها في غياهب التاريخ. وبغض النظر عما إذا كانت مراجعات الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية والمنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير وتصريحات السيدة مارجريت عازر الأمين العام لحزب الجبهة الديمقراطية, وإعلانات وتصريحات أفراد خرجوا علي الجماعة نتيجة قبولها في النهاية بالدخول في المعركة الانتخابية بعد الحديث عن المقاطعة; تدخل في إطار تصفية حسابات قائمة ومنافسات سياسية دائمة, فإن ما جاء فيها يلقي أضواء ساطعة علي التجربة كلها. الدرس الأول الذي جاء من الهامش السياسي هو أن الجماعة والجمعية ومن كان معهم عجزوا تماما عن تطبيق ما كانوا ينادون بتطبيقه في المجتمع نفسه علي أنفسهم. فالمطالبة بالنظام في المجتمع, لم يكن يقابلها إلا الفوضي داخل الجماعة, والسعي نحو الالتزام, لم يكن يوازيه داخل الجمعية إلا التفكك بل الغياب الطويل للقائد والرمز, والرغبة العارمة في الديمقراطية كان يقابلها حالة مدمرة من الفوضي والعجز عن اتخاذ القرار, والاتحاد حول المطالب السبعة لم يواجهه إلا الخلاف حول كل أمر آخر. الدرس الثاني أن الصدق مع النفس ومع المجتمع لم يكن أبدا فضيلة شائعة علي الهامش السياسي, فمع المشاركة الكثيفة في الضوضاء القائمة, كان الجميع يجهزون للدخول إلي حلبة السباق الشرعي والرسمي عالمين بأن الساحة السياسية المصرية أعقد بكثير مما يعرف الحالمون. ولذلك كانت الدهشة عارمة لدي الأمين العام لحزب الجبهة الديمقراطية لأن القيادة أصبحت أسيرة ألفاظها بأكثر من درايتها بحقائق الواقع السياسي, وبدلا من تنمية الحزب وكوادره من خلال معارك سياسية حقيقية, كان الاختيار هو الحصول علي بضع دقائق تليفزيونية. وكانت الدهشة أكبر من قيادات جماعة الإخوان علي هؤلاء المنشقين الذين صدقوا المسرحية بدلا من الحقيقة, وطرحوا المناورة السياسية كبديل للعمل السياسي. ومن المدهش أن أحدا في مجموعة الهامش كلها لم يستغرب أبدا كيف أنهم فشلوا تماما في جمع المليون توقيع التي نزلوا إليها, وظلت الإشارة الدائمة هي النجاح في جمع قرابة المليون التي لم يرد أحد أن يدخل في تفاصيل أصالته, وكيف أن أكثر من ثلثي عدد الموقعين الفعليين كان توقيعهم إلكترونيا, وهو التوقيع الذي رفضه البرادعي في البداية ثم عاد وأشاد به في النهاية. الدرس الثالث, أنه ببساطة كانت القوي السياسية الرئيسية تعرف معني كلمة الهامش السياسي الذي يظل هامشا ما لم يتعلم من حقائق الواقع الذي يقول إن القوي السياسية لا تولد علي سلالم النقابات, وإنها مهما كان للعاصمة من ثقل لا يمكنها أن تكون قاهرية أو سكندرية فقط علي أحسن تقدير, وإنها لا بد أن تدخل إلي صميم أقاليم الوطن كله وهو ما ظلت قيادات المجموعة متأففة من التحرك فيه لكي تسمع وتعرف وزنها الحقيقي ليس كما تظهره عدسات التليفزيون المكبرة, وإنما كما يظهر بالفعل من حركة الجموع والجماهير. وببساطة, وكما هي الحال في كل الهوامش السياسية في العالم, لم يكن هناك أصول اقتصادية واجتماعية للمجموعة الذائعة الصيت التي وجد الشباب فيها بعضا من أحلامهم, ولكنهم بعد ذلك لم يجدوا أحدا يدلهم علي الطريق بين الحلم والواقع. الدرس الرابع أن المجموعة الفائرة دوما عجزت دائما عن الحفاظ علي بوصلة واقعية لعملها, بل إنها أحيانا اخترعت موضوعات مثل التوريث تصورت أنها تلهب الجماهير بينما لم تعلم هذه الأخيرة أبدا إلي أين يراد لها أن تسير. وفي الوقت الذي كانت الجماعة محددة تماما فيما تريده من إصلاح في النظام الانتخابي, إلا أنها كانت علي رعب كامل من طرح القضايا الأخري التي تشغل المجتمع من أول علاقة الدين بالدولة, أو مدي تدخل الدولة في الاقتصاد, أو قضايا الدعم والتعليم والصحة حتي محاربة الفساد, أو بالطبع إلي أي حد وإلي أي مدي تذهب علاقات مصر الخارجية. كان الخوف من الانقسام, والتوتر القائم بين اليمين واليسار, ومن يريدون إقامة دولة دينية ومن يريدون وجود دولة مدنية كاملة الأركان, سببا وراء بقاء المجموعة كلها علي الهامش, لأنها كانت تريد السباحة في بحر التغيير العريض دون أن تتعرض للبلل أو السياحة في بر صحراء واسعة دون أن تعفر أقدامها بحبة رمل. الدرس الخامس أن مجموعة الهامش كلها لم تعرف الكثير عن تاريخ مصر الحديث, كان هناك ترديد كثير لما كان في الفترة الليبرالية المزدهرة دون أن يتذكر أحد كم كان عدد الانتخابات النظيفة في التاريخ المصري, وكان هناك حديث أكثر عن فترات الشموخ الإقليمي, بينما لم يخطر بالبال كم مرة جري احتلال مصر خلالها. ولم يجر في الحساب أبدا أن مصر لم تتطور أبدا من خلال قفزات أو طفرات أو حتي ثورات, وإنما جرت من خلال تراكم طويل المدي يربط البلاد بعضها ببعض, ويقيم صناعتها مصنعا بعد مصنع, ويزيد من تعليمها مدرسة بعد مدرسة وجامعة بعد أخري, وينشر العمران فيها ميلا بعد ميل, ويعطي فرص العمل والحياة شركة بعد أخري واستثمارا بعد آخر. وربما كان ذلك كله لا يعجب بعضنا من فائري الرأس وساخني القلوب, وبالتأكيد فإن هناك ما يمكن عمله لكي يكون التقدم المصري أكثر سرعة, وأعظم جرأة, وأشد إحساسا بالسباق الحار الذي يجري علي مستوي العالم بين الدول والأمم. ولكن تحقيق ذلك لا يكون بالبقاء في الهامش, والاستمتاع بما فيه من ضجيج وصخب, وإنما دخول الحلبة من زاوية التصويت أو الانخراط في الأحزاب أو جمعيات المجتمع المدني, أو بتقديم الحكمة في قضايا مصر المختلفة وليس التحريض من وسائل الإعلام; وساعتها لن يكون الهامش هامشا وإنما جزء من قلب العملية السياسية كلها. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد