تمر هذه الأيام الذكري الثامنة والخمسون لثورة23 يوليو1952, وتكثر الكتابة عن جوانب متعددة من الثورة بهذه المناسبة في كل عام, سواء كانت كتابات ذات طابع عاطفي منحازة إلي هذا الاتجاه. أو ذاك تتسم إما بالمديح والإطراء والثناء أو بالهجاء والإدانة والاتهام, أو كتابات تتصف بالطابع الموضوعي وتتناول بعدا أو آخر من أبعاد الثورة المصرية, الداخلية أو الخارجية, السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غيرها, بالنقد البناء وعبر منهج علمي بهدف الوصول إلي الحقيقة وتعريف القارئ بها, خاصة الأجيال الجديدة, سواء من المصريين أو العرب أو عبر العالم, نظرا لأن الثورة المصرية ونتائجها وتداعياتها لم تقتصر علي مصر أو دوائرها الإقليمية العربية والأفريقية والإسلامية والمتوسطية والعالم ثالثية, ولكنها شملت العالم بأسره. وسأتناول هنا شخصية من الشخصيات التي لعبت دورا هاما ومؤثرا في مسيرة الثورة المصرية ومسارها, سواء في مرحلة الإعداد لها والتحضير لقيامها, أو في قيامها أو خلال الفترة التالية لنجاحها, وعبر حوالي عقد ونصف من مسيرة تلك الثورة, وهي شخصية لم تلق حتي الآن حقها الكافي من التسجيل والتقدير, وأعني تحديدا هنا السيد/زكريا محيي الدين, الذي شغل مناصب متعددة علي مدار السنوات الخمس عشرة الأولي من حياة الثورة المصرية, منها نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية وأول رئيس للمخابرات العامة وعضو مجلس قيادة الثورة وغير ذلك من مناصب. وتأتي أهمية السيد/زكريا محيي الدين من أنه بالرغم من كونه لعب أدوارا هامة في مسيرة الثورة كما أسلفنا القول, فإنه حرص تماما منذ خروجه الاختياري من السلطة عقب هزيمة يونيو1967 وقرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالعودة عن قراره بالتنحي عن الرئاسة في10 يونيو1967 بوقت قصير علي اعتزال العمل العام وتجنب أي أحاديث إعلامية أو صحفية أو كتابة أي نوع من المذكرات, وهو الاستثناء الوحيد ممن بقوا علي قيد الحياة من قادة ثورة يوليو بعد وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر عام1970 الذي اتبع هذا النهج والتزم به بالرغم من محاولات حثيثة لإثنائه عن قراره هذا ولإقناعه بالتحدث والبوح بأسرار الثورة التي يعرف بالتأكيد الكثير منها. وقد احترمت للغاية ما ذكره السيد/زكريا محيي الدين لأحد المقربين منه عندما سأله منذ سنوات عن أسباب احتجابه الطوعي عن الإدلاء بمعلومات أو رواية مذكرات عن أحداث الثورة, فكان رده عليه أنه بالرغم من كثرة ما يعرفه باعتباره لسنوات طويلة كان من الدائرة الضيقة لصناعة القرار, فإنه يخشي أن يعرض رؤي تكون غير مكتملة, باعتبار أنه ربما يكون ما لديه هو جزء من الحقيقة فقط, وليس الصورة الكاملة, وقد يكون لدي آخرين جوانب أخري لا يعلمها هو تغير من الحكم النهائي علي الواقعة. وبالتأكيد فإن هناك شخصين اثنين فقط هما اللذان ربما كانت لديهما صورة أقرب ما تكون إلي الكمال عن فترة الإعداد للثورة وقيامها والعقد ونصف الأول من تاريخها, وهما الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, وربما بدرجة أقل المشير الراحل عبد الحكيم عامر. كذلك لم يشأ السيد/زكريا محيي الدين الإساءة إلي أحد عبر رواية مذكرات قد تسئ إلي أشخاص بشأن واقعة بعينها بالرغم من أن إجمالي دور هؤلاء الأشخاص في مسيرة الثورة قد يكون إيجابيا. ولذلك كله استحق السيد/ زكريا محيي الدين عن جدارة لقب' الثائر الصامت', واستحق بنفس الدرجة الإعراب عن التقدير له. ونأتي هنا إلي تناول لمحات موجزة بقدر ما تسمح به المساحة المتاحة من المواقف الوطنية للسيد/زكريا محيي الدين. فالرجل, أطال الله عمره, لعب العديد من الأدوار الهامة والحيوية لحماية أمن الوطن وتعظيم مكانته ومصالحه إقليميا ودوليا والحفاظ علي أمنه القومي, ونكتفي هنا بمحطات مختارة ولمحات من هذا الدور. وأولي هذه المحطات اختيار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للسيد/زكريا محيي الدين لتولي مسئولية تأسيس ورئاسة أول جهاز وطني مستقل للمخابرات في تاريخ مصر, وذلك بعد أشهر من نجاح ثورة23 يوليو, وتحديدا في عام1953, ولم تكن المهام المنوطة بهذا الجهاز, الذي كان يعرف حينذاك باسم' الإدارة', من النوع المعتاد لأي جهاز مخابرات في العالم, بل فاقت ذلك بكثير, فكان منوطا به قيادة وتوجيه المقاومة ضد الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس بهدف ممارسة الضغوط علي بريطانيا علي مائدة التفاوض للقبول بالانسحاب الكامل من مصر, حتي تم بالفعل التوقيع علي اتفاقية الجلاء وتم بالفعل انسحاب آخر جندي بريطاني من مصر في18 يونيو.1956 ثم ما لبثت المخابرات العامة المصرية أن عادت لقيادة المقاومة ضد العدوان الثلاثي علي مصر حتي تم الجلاء الثاني في23 ديسمبر.1956 وخلال تلك الفترة أيضا لعبت المخابرات العامة المصرية دورا مؤثرا في تعزيز الدور الإقليمي لمصر علي مختلف دوائر التحرك العربي والأفريقي والإسلامي والعالم ثالثي. أما المحطة الثانية التي نتوقف لديها في مسيرة عطاء السيد/زكريا محيي الدين, فهي أنه كان رجل المهام الصعبة, فكلما كانت الأمور تتعقد في مجال ما أو مرحلة ما كان الرئيس الراحل عبد الناصر يلجأ لتكليف السيد/زكريا محيي الدين بالملف أو الملفات الشائكة وبتجاوز المراحل الصعبة, ومن أمثلة ذلك تكليفه بتشكيل الوزارة عام1965, في وقت كانت العديد من الملفات تتعقد فيه, ما بين الوضع الاقتصادي الداخلي والأوضاع في اليمن وحدوث توترات جدية في العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وغير ذلك. وأمام كل هذه المواقف كان السيد/زكريا محيي الدين بدوره يتمتع بالشجاعة التي أهلته أيضا لاتخاذ العديد من القرارات الصعبة ولكن الضرورية, بالرغم من عدم شعبية بعض هذه القرارات أحيانا, ولكن كان دافعه دائما هو مصلحة الوطن ولا شئ سوي ذلك. وثالث وآخر المحطات التي أتوقف عندها هنا تتعلق باختيار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للسيد/زكريا محيي الدين لخلافته عندما قرر التنحي عقب هزيمة5 يونيو1967 وأعلن ذلك يوم9 يونيو1967, وبعيدا عن الروايات المتضاربة حول هذه الواقعة وخلفياتها, وبعيدا عن التفسيرات المتنوعة لها, فإن مجرد هذا الاختيار والإعلان عنه للشعب يدل علي مدي ثقة الرئيس الراحل في وطنية والتزام وقدرات السيد/زكريا محيي الدين, كما أن إسراع الأخير بالاعتذار علانية عن هذا الاختيار/التكليف, يدل علي مدي إخلاصه للرئيس/الصديق وللوطن ومصالحه وأمنه علي المدي الطويل وليس البحث عن الأضواء أو السلطة أيا كان مصدرها.