ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن انحياز البعثة الأممية للإسلاميين في ليبيا، وربما لن تكون الأخيرة في ظل التطورات المتلاحقة التي جعلت غسان سلامة مبعوث الأممالمتحدة يبدو مصمما على تمكين المؤدلجين من الحكم، في الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول تلفظ هذا الاتجاه، وتتجنب الكثير من القوى الوقوف إلى جوارهم. كلما حاولت عدم التعرض لتحركات المبعوث الأممي والتركيز على قضايا أخرى عميقة، وجدت في سياساته المتعسفة ما يجذب ويغري على التوقف عندها، ويجبر على تحليلها في سياق مرحلة عصيبة تمر بها الأزمة الليبية، تحتاج فيها إلى تكاتف الجهود المخلصة وليس العمل على تشتيتها وإغراقها في حسابات غامضة تعيد العجلة إلى الوراء. آخر إبداعات الدكتور سلامة، ونائبته السفيرة الأمريكية ستيفاني وليامز، رعاية مؤتمرين في منطقة الحمامات خلال أقل من شهر، عقدا بهدف ظاهر هو دراسة التداعيات الأمنية والسياسية لعملية تحرير طرابلس من قبل الجيش الوطني الليبي. وفي الباطن للتأثير على مواقف بعض الشخصيات المناهضة للإسلاميين، والسعي للقبض على زمام المبادرة مرة أخرى، بما يعيدهم إلى الواجهة ويسمح بتعويمهم لدى بعض الجهات التي بدأت الانفضاض عنهم. حضر مؤتمر الحمامات الأول 16 شخصية، جلهم ممن كانوا مدعوين إلى الملتقى الجامع، والذي لم يعقد في أبريل الماضي، ونصف من حضروا يحسبون على التيار العقائدي في ليبيا، ويريدون مواصلة توظيف البعثة الأممية لغض الطرف عن عبث المتطرفين والكتائب المسلحة، واستمرار تحريض المجتمع الدولي على الجيش الليبي وقائده المشير خليفة حفتر وشق صفوف مؤيديه، وتهيئة الأجواء للمطالبة بقوات لحفظ السلام، كمحاولة أخيرة لإنقاذ فايز السراج رئيس حكومة الوفاق وحلفائه من المتشددين. أكدت اجتماعات الحمامات أن السراج انتهى داخليا واهتزت شرعيته دوليا، بسبب انسجامه مع أفكار الإخوان، ورضوخه لنفوذ الميليشيات وصمته المريب على هيمنتهم على المشهدين الأمني والسياسي الفترة الماضية، وانصياعه لتصورات غسان وستيفاني ورفاقهما، بعد تراجع أسهم حكومته في أجندة عديد من القوى الدولية المؤثرة. أرادت البعثة الأممية من محادثات الحمامات إثبات الوجود السياسي، وتعويض ما فقدته من شرعية معنوية جراء تعويلها على الكتائب المسلحة على حساب المؤسسة العسكرية النظامية، وضخ بعض الدماء في العروق الميتة للملتقى الجامع للإيحاء بأن الفكرة لا تزال تنبض بالحياة وتحتاج فرصة جديدة، علاوة على الترويج لوقف إطلاق النار الذي يراود بعثة الأممالمتحدة وتعزف على وتره كمدخل أو أمنية للعودة إلى خطوط ما قبل 4 أبريل الماضي، أي انحسار وجود قوات الجيش في الشرق الليبي فقط. لم تتمكن زيارات السراج الخارجية من تغيير المعادلة التي أوجدتها تحركات الجيش الليبي نحو طرابلس. وفشل الرجل في الحصول على إدانات ذات ثقل دولي ومباشرة ضد المشير حفتر، واصطدم بكثير من المطبات السياسية التي حالت دون صدور قرار لصالحه من مجلس الأمن، وبدت البعثة الأممية فاقدة جزءا معتبرا من الثقة والمصداقية. كشفت المناقشات التي جرت في منطقة الحمامات حجم الهلع الذي ينتاب قيادات جماعة الإخوان ليقينهم أن التطورات العسكرية تسير في غير مصلحتهم، بعد التدهور الحاصل في قوة الميليشيات وهروب الكثير من عناصرها وتعثر عمليات التجنيد بالإكراه وعدم جدوى الإغراءات المادية التي تقدم لهم، وازدياد الخسائر التي تكبدها المتشددون في معارك طرابلس، الأمر الذي أدى إلى اهتزاز صورتهم المتوحشة، لأن الضربات القوية التي تعرضوا لها أفقدتهم الاستفادة من المدد العسكري الذي توافد عليهم من تركيا. يحاول المبعوث الأممي إنقاذ التيار الإسلامي من ورطته الراهنة من خلال لقاءات سياسية وخطب رنانة في مجلس الأمن، وأخيرا بدأ الدفع نحو تسويق طموحه في تكوين مناطق عازلة وجلب قوات سلام دولية إلى طرابلس. وكلها لم تجد أصداء إيجابية حتى الآن، ما أضعف موقفه السياسي لدى من درج على الدفاع عنهم، وقلل من أهمية الاجتهادات الساعية إلى إحداث تغيير جوهري يقلب الطاولة لمصلحة خصوم حفتر من الإرهابيين. يصمم الدكتور سلامة على السباحة عكس الاتجاه الرافض للتيار الإسلامي، ويتلبسه نوع من التضخم المعنوي المنتشر بين بعض المثقفين والمفكرين بدلا من التمسك برصانة الدبلوماسي. فقد تجاهل تنامي غضب الرأي العام الليبي من قيادات هذا التيار الذي جر البلاد إلى هذا المستنقع، والتقى علانية الأحد الماضي في طرابلس، محمد صوان رئيس حزب العدالة والبناء، الذراع السياسية لجماعة الإخوان. هدف من وراء اللقاء الكشف عن مساندته للجماعة أمام العالم، حيث تم تسليط الأضواء على الاجتماع، وبعث برسالة تشي بأن البعثة لن تتوانى عن دعم الإخوان، حتى لو نبذتها دول كثيرة ونبذها الليبيون أنفسهم بما فى ذلك سكان طرابلس ومصراته. كما قام سلامة بالترتيب مع صوان لاجتماعات الحمامات، كبداية لإعادة الصياغة السياسية للمشهد وتجاوز محنة الصدمات المتتالية التي واجهت الرجلين ومن لف لفهما من السياسيين والمتشددين والعصابات المسلحة. وأثار عدم التوقف عن تبرير تصرفات السراج والتعاون مع الإخوان، مجموعة من التساؤلات حول سمات سلامة الشخصية والمزاجية المتقلبة ورسخ صورة ذهنية سلبية. فهو ينبذ الإرهاب ويتعامل مع رعاته. ينشد السلام والاستقرار وتؤدي تصوراته إلى نشر الفوضى. يدين تدخلات بعض الدول المؤيدة لحفتر ويغمض عينيه عن أخرى برعت في تهريب السلاح للسراج. يتشبث المبعوث الأممي بمواقفه السياسية ولا يريد التخلي عنها، على الرغم من كثرة الأخطاء وسوء التقديرات التي تبناها، وإخفاقه في تحقيق تقدم في أي من الملفات التي اقترب منها، وكأنه يريد تأكيد عناده لإثبات شيء ما في نفسه، أو الاحتجاج على ممارسات وسلوكيات يحاول تصويبها عبر توفير دعم للإسلاميين ومخالفة الإجماع المعادي لتوجهاتهم. قد يفضي الحرص المبالغ فيه على إنقاذ إسلاميى ليبيا إلى إطالة أمد معركة طرابلس، لكنه لن يؤدي إلى انتصارهم، وحتى الاستجابة لوقف إطلاق النار لن تكون في مصلحتهم. فهناك واقع جديد، وتوازنات مختلفة، وتغير في الولاءات، تضغط على بعض القوى للإقدام على إجراءات تمهد الطريق إلى تسوية سياسية سوف يصبح فيها الإسلاميون رقما هامشيا. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل