في أقصي جنوب محافظة أسيوط وتحديدا في مركز البداري المعروف بالعصبية وانتشار الخصومات الثأرية، وعندما نبحث عن كبير العائلة كما كان قديما، نجد أن ذلك المصطلح بدأ يتلاشي تماما، بل صار عملة نادرة في هذا الزمان بعد طغيان المادة والظروف الاقتصادية التي أدت لتفكك الأسر وبالتبعية تفكك العائلات.. التقينا الشيخ حسني فولي حمدان 58 عاما مدير معهد أزهري ورئيس لجنة مصالحات المركز، والذي بدأ كلامه معنا قائلا: كبير أو حكيم العائلة هو ذلك الرجل الذي بمجرد وجوده في أي مشكلة يدرك جميع الأطراف ويتيقنون بأنها أخذت طريقها للحل، لما يتمتع به من هيبة ووقار، ولكن هؤلاء الرجال أغلبهم قد رحل عن دنيانا ولم تعد هناك ثقة من أبناء الجيل الجديد في أحد إلا نادرا، ومع ضعف الوازع الديني والذي كان يحتوي الجميع باحترام الكبير ورحمة الصغير بات الأمر صعبا، وترتب علي ذلك تأجج كثير من المشكلات، وهذا لا شك صعب من مهمة ودور لجان المصالحات، لأنها كانت تعتبره الملاذ الأول لها بعد الله عز وجل، وللحقيقة كبير العائلة كان بدوره أحد أهم عوامل محاصرة المشكلات ووئدها في المهد، ولذلك لا نبالغ إذا قلنا إن من أسباب كثرة المشكلات في هذا الزمان، أن الكبير قل وجوده وأي عائلة لها كبير تجد الحل أسهل وعليه 90% من الصلح لأن كلامه مسموع. وحول بداية مشوار المصالحات، أكد الشيخ حسني فولي، أن المشوار بدأ في عام 1994 في قرية تناغة الشرقية بين عائلتين من كبار العائلات هناك، وحدثت إصابات، فسارعت أنا وأهل الخير إلي العائلتين، وبدأنا بالعائلة التي وقع عليها الضرر حتي وصلنا للموافقة علي الحساب، وهو أول خطوات الصلح لأنه يعني قبول المتخاصمين ضمنيا الصلح، ويبدأ كل منهم بعرض مشكلته. مضيفا، لابد من توافر شروط في المصلح، أن يكون تقياً، ويبتغي وجه الله تعالي، وفي نيته الصلح والخير للطرفين، لأن الصلح يحتاج تجردا وكذلك لابد من طهارة اليد واللسان وحسن الخلق، لأن اللفظ الطيب له مفعول السحر مع قدرته علي التحمل، ولابد أن يتوقع أي رد فعل فيقابله بالحكمة حتي لا يفسد وهو يريد الإصلاح، وألا يميل المصلح لأي من الطرفين حتي في الزيارات، حتي لا يصبح طرفا وليس مصلحا. والصلح يختلف باختلاف أسباب المشكلة، ففي حالة وجود دم بين عائلتين نبدأ بالعائلة الواقع عليها الضرر حديثا، ونقوم بتهدئتها والتواصل مع كبار هذه العائلة، مع طرح نماذج للصلح وبين آثاره السلبية وبعد تهدئة النفوس نأخذ وعدا بالجلوس للحساب، ونبدأ في عقد مجالس عرفية تمهيدا للجلسة الرسمية التي تجمع الطرفين، وتتم الاستعانة بأهل الدرب من المراكز والبلدان الأخري والاستفادة بخبرتهم، وهؤلاء هم شركاء في الحل، وكذلك لو كانت المشكلة بخصوص خلاف علي عقار أو أرض، تتم الاستعانة بمتخصصين مع توافر شروط الحكمة، فلكل مجال رجال، وبعد ذلك يتم توثيق هذا الكلام وتوقيع الطرفين عليه مع وجود شروط جزائية. وقد تعلمنا من خبرتنا في هذا المجال أن المشكلات كالمرض، ورجال المصالحات علاج، ولكل مشكلة علاجها الخاص بها، كما نقوم بالاستعانة بأشخاص من بلاد مجاورة كذلك نشاركهم في الحلول التي تنشأ لديهم، وهناك مشكلات تستمر لسنوات كي نقنع الطرفين ونحاول فيها، والحقيقة أن اليأس لا وجود له عندنا، كذلك تتم مراعاة الوقت المناسب للدخول للصلح. وأكد أن هناك بعض الأشخاص لا يريدون الخير، وهناك منتفعون من وراء الخصومات وأحيانا يكونون عاطلين، وتصبح الخصومة مورد رزق لهم، وعند حدوث أي مشكلة فإننا نبحث عن أسبابها ومن وراءها، ونبدأ بتوجيه تحذير لهم من خلال النصح، وللحق فإننا في مركز البداري نجد تعاونا كبيرا من مسئولي الأمن لإنهاء الخلافات في مهدها، وفي حال وجود مشكلة يتم التشاور معنا لمعرفة أنسب المداخل لحل المشكلة.أما عن أصعب خصومة أكد فولي، أن من أصعب المشكلات التي كان يعاني منها مركز البداري تلك الخصومة التي كانت بين اثنتين من أكبر العائلات وامتدت لنحو 56 عاما، وراح ضحيتها نحو 22 قتيلا، حتي أن أحد رءوس العائلات فقد إخوته وابنه وحفيده في هذه النزاعات، أي أنها طالت عدة أجيال وكانت تؤرق المركز بأكمله، وبعد نحو عامين من الجهود كللت بالنجاح والحمد لله، وكانت بسبب خلاف علي أرض زراعية وراح ضحيتها خيرة شباب ورجال البداري، وأهدرت فيها العائلتان ملايين الجنيهات، ومرت عليهم سنوات الظلام والدم، وبهذا الصلح تم فتح صفحة جديدة.