اللجنة القضائية المشرفة على الجمعية العمومية لنقابة المحامين تعلن الموافقة على زيادة المعاشات ورفض الميزانية    وزير الاتصالات: تجديد رخص المركبات أصبح إلكترونيًا بالكامل دون أي مستند ورقي    وزير الاتصالات: فرص العمل الحر في التكنولوجيا قد تصل إلى 100 ألف دولار    اللمسات الأخيرة.. تفاصيل التجهيزات النهائية لافتتاح مركز الإسماعيلية التجاري    9 قتلى و10 جرحى فى حادث انقلاب حافلة بولاية بنى عباس جنوب غرب الجزائر    الاتحاد الأوروبى: سنركز على الوحدة فى مواجهة النزاعات العالمية    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الحكومة البريطانية تبدأ مراجعة دقيقة لأنشطة جماعة الإخوان.. ماسك يدعو إلى إلغاء الاتحاد الأوروبى.. تقارير تكشف علاقة سارة نتنياهو باختيار رئيس الموساد الجديد    جيش الاحتلال يطلق قنابل ضوئية في محيط مخيم البريج وسط غزة    الرئيس السوري: إسرائيل نفذت أكثر من ألف غارة جوية و400 توغل بري على سوريا منذ ديسمبر الماضي    آخر مباراة ل ألبا وبوسكيتس أمام مولر.. إنتر ميامي بطل الدوري الأمريكي لأول مرة في تاريخه    وكيل بنتايج بعد فسخ عقده مع الزمالك: اللاعب لم يحصل على مستحقاته منذ 3 أشهر ونصف    أخبار × 24 ساعة.. متى يعمل المونوريل فى مصر؟    مصدر أمني ينفي وجود إضرابات عن الطعام بمراكز الإصلاح والتأهيل    أول صورة لضحية زوجها بعد 4 أشهر من الزفاف في المنوفية    أخبار مصر اليوم، نتائج ال19 دائرة الملغاة وجولة الإعادة في إطسا الخميس المقبل، موعد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول بالجامعات، الأرصاد تعلن درجات الحرارة غدا    تكريم القارئ الشيخ طه الفشني في الحلقة الثامنة من "دولة التلاوة"    الحق قدم| مرتبات تبدأ من 13 ألف جنيه.. التخصصات المطلوبة ل 1000 وظيفة بالضبعة النووية    محمد متولي: موقف الزمالك سليم في أزمة بنتايج وليس من حقه فسخ العقد    الوطنية للانتخابات: نتائج ال19 دائرة الملغاة وجولة الإعادة في إطسا الخميس المقبل    التحفظ على 5 مركبات تلقي المخلفات في الشوارع بكرداسة (صور)    ارتفاع سعر "هوهوز فاميلي" من 35 إلى 40 جنيهًا    خالد الجندي: الفتوحات الإسلامية كانت دفاعا عن الحرية الإنسانية    وكيل وزارة الصحة بكفر الشيخ يتفقد مستشفى دسوق العام    أصالة تحسم جدل انفصالها عن فائق حسن : «الناس صارت قاسية»    تأجيل محاكمة 25 متهما بقضية "هيكل اللجان الإدارية" لجلسة الغد    الجامعة اليابانية تبرز زيارة "أخبار اليوم".. شراكة لنموذج تعليمي فريد    جولة إعلامية موسعة لوزير السياحة بالولايات المتحدة لتعزيز مكانة مصر على خريطة السياحة العالمية    شيكابالا يطالب مجلس الزمالك بالرحيل بعد أسوأ فترات النادي    أول ظهور فني لزوجة مصطفى قمر في كليب "مش هاشوفك"    محمد كريم على السجادة الحمراء لفيلم جوليت بينوش In-I in Motion بمهرجان البحر الأحمر    طالب يُنهي حياته شنقًا داخل منزل أسرته في قنا    بعد 4 أشهر من الزفاف.. زوج ينهي حياة زوجته بالمنوفية    هرتسوج معلقًا علي طلب ترامب العفو عن نتنياهو: إسرائيل دولة ذات سيادة    تعليق مفاجئ من حمزة العيلي على الانتقادات الموجهة للنجوم    «هيئة الكتاب» تدعم قصر ثقافة العريش بألف نسخة متنوعة    جامعة كفر الشيخ تنظم مسابقتي «المراسل التلفزيوني» و«الأفلام القصيرة» لنشر ثقافة الكلمة المسؤولة    الأزهري يتفقد فعاليات اللجنة الثانية في اليوم الأول من المسابقة العالمية للقرآن الكريم    قطر وسوريا تبحثان تعزيز التعاون التجاري والصناعي    أسلوب حياة    تقرير عن ندوة اللجنة الأسقفية للعدالة والسلام حول وثيقة نوسترا إيتاتي    بايرن ميونخ يكتسح شتوتجارت بخماسية.. وجولة مثيرة في الدوري الألماني    سكرتير عام الجيزة يتابع جهود رفع الإشغالات وكفاءة النظاقة من داخل مركز السيطرة    محافظ الأقصر والسفيرة الأمريكية يفتتحان «الركن الأمريكي» بمكتبة مصر العامة    الرئيس الإماراتي يبحث مع رئيس الإكوادور علاقات التعاون ويشهد توقيع اتفاقيات بين البلدين    الاتصالات: 22 وحدة تقدم خدمات التشخيص عن بُعد بمستشفى الصدر في المنصورة    عاجل استشاري أمراض معدية يحذر: لا تستخدم المضادات الحيوية لعلاج الإنفلونزا    لماذا يزداد جفاف العين في الشتاء؟ ونصائح للتعامل معه    مفتي الجمهورية: التفاف الأُسر حول «دولة التلاوة» يؤكد عدم انعزال القرآن عن حياة المصريين    فيلم السلم والثعبان.. لعب عيال يحصد 65 مليون جنيه خلال 24 يوم عرض    وزير الصحة يشهد انطلاق المسابقة العالمية للقرآن الكريم في نسختها ال32    مواقيت الصلاه اليوم السبت 6ديسمبر 2025 فى المنيا..... اعرف صلاتك بدقه    السيسي يوجه بمحاسبة عاجلة تجاه أي انفلات أخلاقي بالمدارس    فليك يعلن قائمة برشلونة لمباراة ريال بيتيس في الليجا    اسعار المكرونه اليوم السبت 6ديسمبر 2025 فى أسواق ومحال المنيا    الصحة: توقعات بوصول نسبة كبار السن من السكان ل 10.6% بحلول 2050    الجزائر تواجه تحديًا جديدًا في كأس العرب 2025.. مواجهة قوية للسيطرة على صدارة المجموعة    مواجهة اليوم.. الكويت والأردن فى صراع النقاط الثلاث بكأس العرب 2025    مصر والإمارات على موعد مع الإثارة في كأس العرب 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية..
ملتقى القاهرة الدولى للإبداع الروائى العربى
نشر في الأهرام اليومي يوم 17 - 05 - 2019

لم أستطع إلا الاستجابة بالموافقة على ما طلبته الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة والأستاذ الدكتور سعيد المصرى الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة فى تولى رئاسة اللجنة العلمية لتخطيط وإعداد ملتقى القاهرة الدولى للإبداع الروائى العربى السابع، فاخترنا للملتقى عنوان «الرواية العربية فى عصر المعلومات».
وبالفعل قُمتُ بالمهمة المطلوبة مع الأصدقاء إبراهيم عبدالمجيد الروائى الكبير، والدكتور خيرى دومة، والدكتور حسين حمودة، والدكتور شريف الجيار، والأستاذة اعتدال عثمان، والكاتب الأديب يوسف القعيد، والأستاذ سعيد سالم، والأستاذ محمد شعير، وكلهم يمثلون معارف متعددة الزوايا ساعدت بالفعل على تحديد المحاور الأساسية التى يمكن أن تناقش من خلالها قضية «الرواية فى عصر المعلومات».
وكنتُ سعيدًا ولا أزال بالعمل مع المجموعة العلمية التى ذكرتُ أسماءها، ومع المجموعة الإدارية التى تولاها الأستاذ وائل حسين شلبى الذى أعُده ابنًا لى، رأيته ينمو أمام عينى، ويمضى تحت إشرافى فى المجلس الأعلى للثقافة، وذلك فى السنوات التى عملتُ فيها أمينًا عامًّا لهذا المجلس بين عامى 1993 و2007.
والحق أن سعادتى لم تكن تقتصر على هذا الجانب وحده فهناك جانب آخر، حرصتُ على أن أجعله مفاجأة للجميع، وهو أننا فى هذا العام (2019) نحتفل بمرور عشرين عامًا على مولد ملتقى القاهرة للإبداع الروائى.
وأذكر أن الذى دفعنى إلى إنشاء هذا الملتقى (تحت إشراف فاروق حسنى الذى كان وزيرًا للثقافة فى ذلك الوقت) هو أننا كنا نفتش ونبحث عن آلية جديدة للاحتفاء بمرور عشر سنوات على حصول الكاتب العالمى نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب سنة 1988، وقد ظللنا منذ هذا العام نحتفل بالجائزة سنويًّا إلى أن وصلنا إلى سنة 1998 التى أخذنا نفكر فى كيفية ثابتة للاحتفاء بهذه المناسبة البهيجة التى حملت الأدب العربى – خصوصًا الرواية- إلى المصاف العالمى الذى تتساوى فيه رأس نجيب محفوظ مع الرؤوس العظيمة التى سبقته، والرؤوس العظيمة التى لحقت به.
وانتهى بنا التفكير إلى تأسيس ملتقى القاهرة للإبداع الروائى على نحو يتكرر بعد ذلك وعلى نحو يؤكد أننا نعيش فى زمن الرواية من ناحية، كما يؤكد المكانة العالمية لنجيب محفوظ الذى تنبَّأ سنة 1945 بأن القصة هى «شعر الدنيا الحديثة«.
وبالفعل تحوَّلت الرواية من مجرد فن ثانوى بالقياس إلى الشعر الذى هو ديوان العرب الأكبر، فأصبحت فنًّا مركزيًّا يتناسب وتغير الحياة التى دخلت إلى عصر العلم والصناعة التى أصبحت كالعلم علامة مائزة لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولم تتوقف الرواية عند هذا الحد، فقد انتقلت من كونها النوع الأدبى الذى يجاوز عصر العلم والصناعة إلى ما بعدهما من عصور تترتب على التقدم فيهما إلى أن نصل إلى عصر المعلومات الذى نعيش فيه الآن، والذى فرض ملامحه النوعية الخاصة على الرواية التى لم تعد تُكتب كما كانت تُكتب من قبل، بل التى لم تعد تُكتب حتى كما كان يكتبها نجيب محفوظ وأبناء جيله على السواء.
وكان من الطبيعى أن يكون المحور الأساسى الذى تدور حوله أوراق وأبحاث ومناقشات الموائد المستديرة فى الملتقى الأول حول «خصوصية الرواية العربية».
وهو أمر فرضه علينا ما شعرنا به جميعًا من ثقة فى الرواية العربية التى أصبحت قادرة – فى كتابات نجيب محفوظ- على منافسة غيرها من الروايات العالمية من ناحية، وقادرة على أن تترك بصمتها الخاصة فى كتابة القصة التى أصبحت «شعر الدنيا الحديثة» بحق.
وأذكر أننى توليت قيادة عدد من شباب الباحثين وتناقشنا مع عدد من أساتذتنا حول موضوعات الملتقى الأول للإبداع الروائى، ودعونا أكبر عدد من كُتّاب الرواية ونُقادها على امتداد الأقطار العربية، وفى الوقت نفسه عددًا غير قليل من المشتغلين بترجمة الرواية ونقدها ابتداء من الولايات المتحدة الأمريكية مرورًا بفرنسا وإيطاليا وإنجلترا وانتهاء بألمانيا والمختصين بالأدب العربى فى الاتحاد السوفيتى (فى ذلك الوقت).
وكانت ڤاليريا كيربتشينكو فيما أذكر أبرز الدارسات الروس فى هذا المجال. ولم تكن أيام المؤتمر سبيلًا إلى التعرف الحميم على شخصيات مثل فيصل دراج ومحمد شاهين وأستاذنا الكبير إحسان عباس فحسب، وإنما كانت مجالًا متسعًا للاستماع إلى تأصيلات أساتذتنا الكبار الذين أضافوا إضافات فكرية نقدية أصيلة إلى حد كبير، خصوصًا أفكار أستاذنا الدكتور شكرى عياد. والحق أن شكرى عياد وإحسان عباس كانا أبرز النقاد فى هذا الملتقى، فبقدرٍ ما أذكرُ أفكار شكرى عياد وهو يسعى إلى تجسيد أفكاره عن الأصالة، كنتُ أكثر سعادة بالدور التنظيرى الذى كان يقوم به الأستاذ توفيق بكار «التونسي« مع صوت متميز لمحمد برادة «المغربى».
ولا أزال أذكر الفرحة التى كانت تملأ وجدانى عندما كنتُ أرى نقاد وروائيى المغرب وتونس يتحاورون مع غيرهم من شباب الخليج، أو أقرانهم من كُتّاب المشرق الذى يضم – باستثناء مصر- كُتّاب سوريا ولبنان والعراق، وهى الأقطار العربية المؤسِّسة لفن الرواية.
ولم نكن نسمع فى ذلك الوقت فى الإبداع الروائى عن تميز لافت إلا فى عدد من الأقطار العربية، هى الأقطار التى كانت والتى لا تزال أقطار المنشأ والتطور. لكن مع هذا كان الملتقى الأول للإبداع الروائى يضم مُمثلين لكل الأقطار العربية تقريبًا، حتى الأقطار التى كان روائيوها لا يزالون فى مرحلة البدايات مثل عبده خال ويوسف المحيميد وغيرهما من الكُتّاب الذين كانوا لا يزالون فى طور الشباب الباكر، ولا أزال أذكر وجوه الكثيرين من الروائيين العرب، ومنهم عبدالرحمن منيف وحنا مينا وإبراهيم الكونى ومعهم عدد لافت من الروائيات اللائى أُتيح لى أن أراهُنَّ وأتعرف عليهن للمرة الأولى مثل هدى بركات اللبنانية وليلى العثمان الكويتية، وخناثة بنونة المغربية، والأردنية سميحة خريس، وكنتُ أسمع أصوات جبرا إبراهيم جبرا العراقى (الفلسطينى الأصل) يناقش الطيب صالح السودانى، وذلك فى نوع من الحماسة التى تجمع بين حضور رضوى عاشور وصبرى موسى وإبراهيم أصلان ومحمد البساطى.
ومضت أيام الملتقى الذى جذب للمرة الأولى أكبر عدد من مُحبى الثقافة والمتحمسين للرواية التى أعلن المؤتمر عن تأصل زمنها النوعى، كما أعلن وصول الرواية إلى الصدارة التى لم يعد الكثيرون يجادلون فى أهميتها.
هكذا كُنتَ ترى المرحوم خيرى شلبى يجادل فتحى غانم، رئيس لجنة القصة ورئيس المؤتمر فى ذلك الوقت، أو يحاور صبرى موسى ومحمود أمين العالم، وذلك بالقدر الذى كنتَ ترى فيه محمد البساطى يتحاور فى حميمية ومودة مع هدى بركات وحنان الشيخ وصبرى حافظ وإبراهيم فتحى، وبالقدر نفسه كان الحضور النقدى لمحمود أمين العالم موازيًا لحضور إحسان عباس الذى كان رئيسًا لهيئة التحكيم الخاصة بجائزة الملتقى التى شارك فيها الأستاذ محمود أمين العالم وتوفيق بكار ورضوى عاشور مع الطيب صالح ويُمنى العيد وعبدالحميد حواس.
ولم نكن ندرى ونحن نجتمع كل يوم من الصباح إلى المساء فى مكتبة القاهرة الكبرى التابعة لوزارة الثقافة، أننا نؤسس لشيء جديد فريد، بالغ الأهمية فى آن. ولعل النتيجة الأولى التى ترتبت على هذا الملتقى الأول، هى اقتناع فاروق حسنى بضرورة إيجاد مبنى جديد، خاص ولائق بالمجلس الأعلى للثقافة المصرية الذى استطاع من خلال هذا الملتقى أن يؤكد أنه لم يعد مجلسًا أعلى للثقافة المصرية بل أصبح مجلسًا أعلى للثقافة العربية كلها.
ولذلك لم يتردد فاروق حسنى وزير الثقافة فى ذلك الوقت فى الأمر بتحويل واحد من أهم المبانى الجديدة فى منطقة الأوبرا إلى مبنى جديد ومتكامل للمجلس الأعلى للثقافة، يضم قاعات للمحاضرات والندوات، وذلك على نحو يعينه على الاستعداد لمثل هذه الملتقيات فى المجلس الأعلى للثقافة الذى فتح كل نوافذه ومنافذه على آفاق الثقافة العربية والعالمية على السواء.
وأسهمت جلسات المؤتمر وموائده المستديرة فى خلق مناخ حوارى حر، قائم على حق الاختلاف والتنوع الخلاق، وذلك فى نوع من الجدال الفكرى الذى شهد المغايرة الحدية أو الضدية بين إبراهيم الكونى المتعمق فى قراءة ودراسة الفلسفة، وحنا مينا الذى كان نموذجًا للكتابة الحسية المباشرة.
وعندما نُضيف أفكار فتحى غانم عن نسبية الحقيقة التى تفرض تجسيدها عبر تعدد الأصوات مع انحياز عبدالرحمن منيف إلى التاريخ الذى توازيه الرواية فى بنيتها التى تضيف إلى تعدد الأصوات تتبع الأزمان. ندرك مدى الثراء الذى كان يكتمل بأفكار جبرا إبراهيم جبرا صاحب «البحث عن وليد مسعود» و«عالم بلا خرائط» و«صيادون فى شارع ضيق» و«صراخ فى ليل طويل».
أما الاحتفال بختام المؤتمر، فكان شيئًا لا يمكن لذاكرة واحد مثلى أن تنساه لا لأننى كنتُ أمينًا عامًّا للمجلس ومؤسِّسًا لفكرة الملتقى، وإنما لِما كنتُ أسمعه وأشاهده من أشكال الفنون التى كانت تتجاوب على مسرح الأوبرا، ومعنى العلاقات المُتبادَلة التى يزدهر بها الفن وتتأصل العلاقات النوعية بين أنواعه المختلفة، بعيدًا عن ضيق أفق الأصولية الدينية أو قصر نظر الدولة التسلطية، فقد كانت روعة الاحتفال فى دار الأوبرا تشرح الصدر، وتؤكد المعنى الخلاق لشعارات الوحدة القومية التى هى الوجه الآخر من التنوع الخلاق للثقافة العربية المنفتحة.
وجاءت الذروة عندما صعد المرحوم الدكتور إحسان عباس إلى المسرح، ليتحدث عن عمل لجنة التحكيم التى عملت على مدار أسبوع لتصل إلى اختيار اسم روائى أو روائية عربية يستحق الجائزة. وكنتُ أجلس فى القاعة متلهِّفًا إلى معرفة صدى إعلان اسم الحائز على الجائزة الذى ما أن أُعلِن اسمه بعد التعريف النقدى بإنجازه، وكان هو المرحوم عبدالرحمن منيف حتى دوَّت قاعة المسرح كلها بتصفيق لم أسمع مثله من قبل. وأعترفُ بأننى تخيلتُ أن جدران المسرح كانت ترتج من أصوات الأكف التى تصفق والحناجر التى تستحسن.
هكذا انتهت أيام ملتقى القاهرة الأول للإبداع الروائى بفوز واحد من أبرز وأعظم وأثرى وأشجع أبناء الجيل الذى جاء بعد نجيب محفوظ، وهو الجيل الذى واصل البحث عن آفاق واعدة، غير مترددٍ فى نقد الواقع الذى رفض سلبياته وكشف عن هوان جذوره فى شجاعة خلاقة وأصالة نادرة. وهذا هو ما فعله عبدالرحمن منيف سواء فى خماسية «مدن الملح»، أو وعيه الثاقب بانتقال وتحول أشكال الهيمنة من الاستعمار التقليدى «الاستيطانى» إلى الاستعمار الجديد أو الإمبريالية، وذلك فى روايته التى لا تُنسى «سباق المسافات الطويلة».. والحق أن التقرير الذى انتهت إليه لجنة التحكيم كان تقريرًا قادرًا على التقاط الجوهر الأساسى لسر إبداع عبدالرحمن منيف، ذلك الروائى العظيم الذى فقدناه عام 2004 بعد عام واحد من وفاة أستاذنا جميعًا إحسان عباس (2003)، وقبل أعوام عديدة من وفاة توفيق بكار(2017) الناقد التونسى الكبير الذى تأثرنا به وبما كتبه فى النقد الأدبى التطبيقى فاتحًا آفاقًا جديدة لم يكن للنقد العربى بها عهد من قبل.
يبقى أن أختم الحديث عن البهجة الحماسية التى انتابت جميع الحضور عندما قام فاروق حسنى وزير الثقافة بتسليم جائزة الملتقى للأستاذ عبدالرحمن منيف، وكانت الجائزة عبارة عن تجسيد ليد المبدع فى الكتابة الروائية، وعلى هذا التجسيد منقوشة أحرف نجيب محفوظ التى تقول: «إنى أؤمن بالحياة والناس، وأرى نفسى مُلزمًا باتباع مُثلهم العُليا ما دمتُ أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسى مُلزمًا بالثورة على مُثلهم ما اعتقدت أنها باطل إذ النكوص عن ذلك خيانة». ولقد كان اختيارى لهذا النص دون غيره تأكيدًا لقيم الحرية أو «الثورة الأبدية» التى لا بد أن ينطوى عليها كل روائى يصل إبداعه إلى المستوى الذى يليق بجائزة الملتقى، وهو ما كان ينطبق تمامًا على عبدالرحمن منيف.
والحق أن نجاح هذا الملتقى الأول للرواية فى المجلس الأعلى للثقافة، هو الذى جعل عددًا غير قليل من الدول العربية تحذو حذو المجلس فى الاهتمام بالرواية، فتتعدد مؤتمرات الرواية على امتداد الوطن العربى، وبالقدر نفسه تتعدد الجوائز المُخصصة لها، ابتداء من جائزة «العويس» الخليجية مرورًا بجائزة «الشيخ زايد»، وجائزة «البوكر» المُخصصة للرواية العربية. وقد أُنشىءت عام 2007 فى أبو ظبى بدولة الإمارات العربية المتحدة حيث يوجد المقر، ويتم تنظيمها بتمويل من هيئة أبو ظبى للسياحة والثقافة وبدعم من مؤسسة جائزة بوكر البريطانية، وتمنح الجائزة فى مجال الرواية حصرًا، ويتم ترشيح قائمة طويلة يُستخلص منها قائمة قصيرة تتنافس على الجائزة التى تصل إلى خمسين ألف دولار أمريكى بالإضافة إلى عشرة الآف دولار لكل رواية من الروايات الستة ضمن القائمة القصيرة. وقد حاولت قَطر أن تدخل فى المشهد، فأنشأت جائزة «كتارا» فى بداية سنة 2014 من خلال إدارة تم تسميتها لهذا الغرض. وهدفها المُعلن ترسيخ حضور الروايات العربية المتميزة عربيًّا وعالميًّا، وإلى تشجيع الروائيين العرب لتحفيزهم على المضى قدمًا نحو آفاق أرحب للإبداع والتميز.
وهاهى عشرون سنة تمر على الملتقى الأول للإبداع الروائى، وهو الملتقى الذى لولاه ولولا الملتقيات التى جاءت بعده ما كنا وصلنا إلى هذا الحال المحمود من التسابق على تشجيع الرواية العربية والاهتمام بأشكال إبداعاتها. ولا أريد أن أبالغ فأقول أن كل هذا الزخم والاهتمام المادى والمعنوى بتكريم الروائيين العرب فى جوائز خاصة بالرواية، هو نتيجة مباشرة لملتقى القاهرة الأول للإبداع الروائى الذى فاز بجائزته الكاتب والروائى عبدالرحمن منيف (1998)، وإنما أقول أن انتظام ملتقى القاهرة للإبداع الروائى إلى عامنا هذا (2019) حيث احتفلنا بمرور عشرين عامًا على تأسيسه، إنما هو بمثابة خلق مناخ ثقافى، تحول تدريجيًّا من الانجذاب إلى الشعر وحده بوصفه فن العربية الأكبر إلى مناخ مُغاير، تنهض فيه الرواية لتحتل المكانة الأولى فى الإبداع العربى. وها نحن بعد عشرين عامًا نرى خارطة الإبداع الروائى العربى تتوزع على كل الأقطار العربية بلا استثناء، وذلك على نحو لم يَعد ينفع معه الحديث عن دول مركز فى الإنتاج الروائى، مقابل دول هوامش، فقد أصبحت العواصم العربية كلها متساوية فى القدرة على الإبداع الروائى من ناحية وعلى التميز فى هذا الإبداع من ناحية مقابلة. فلم يعد المشهد الإبداعى للرواية يسمح بمثل هذه الثنائيات التقليدية عن المراكز والأطراف، وإنما يواجهها بصيغ جديدة عن عواصم متكافئة فى مدى التنوع الخلاق للإنتاج الروائى الذى لم يعد هناك قطر عربى واحد يخلو منه؛ إذ تبدو الأقطار العربية كلها متنافسة فى مدى التنوع الخلاق للرواية، تلك التى يعد ملتقى القاهرة الأول للإبداع الروائى بمثابة نقطة الانطلاق إليها بهدف الوصول إلى هذا التنوع الذى لم يكن له مثيل أو نظير من قبل.
(وللمقال بقية)
لمزيد من مقالات د.جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.