رئيس جامعة المنوفية يهنئ الأقباط بعيد الميلاد المجيد    جامعة المنيا تحقق معدلات مُرتفعة في سرعة حسم الشكاوى    سعر الجنيه الإسترلينى فى بنك CIB ب مقابل الجنيه المصري    زراعة الإسكندرية: جار تشكيل لجان مرور لحصر أي مخالفين بزراعة الأرز    سكرتير عام مساعد البحيرة يتابع تنفيذ مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي    وزير الري: نعمل على توفير حياة كريمة للمواطنين بالصعيد    الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي تُناقش آفاق التعاون مع وكالة تمويل الصادرات البريطانية    تفاصيل مشروعات الطرق والمرافق بتوسعات مدينتي سفنكس والشروق    رفع أطنان من المخلفات وصيانة أعمدة الإنارة في كفر الشيخ    مصادر العربية: وفد قطري يتوجه إلى القاهرة للمشاركة في مفاوضات اتفاق الهدنة بغزة    اندلاع نيران في خاركيف بأوكرانيا جراء هجمات روسية بعد منتصف الليل    عاجل| السيسي يعزي رئيس مجلس السيادة السوداني في وفاة نجله    كوريا الجنوبية: ارتفاع عدد الهاربين للبلاد من الشمال لأكثر من 34 ألفا    موعد بيرنلي أمام نيوكاسل يونايتد في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    الداخلية: ضبط عصابتين و171 سلاحا ناريا و298 كيلو مخدرات خلال يوم    عاجل.. حملات للمديريات التموين على الأسواق لتشديد الرقابة على المخابز والأسواق    إصابة 3 أفراد شرطة فى حادث تصادم سيارة "بوكس" بالدقهلية    شذوذ جنسي وشرب الحشيش.. ننشر اعترافات المتهم بذبح طفل شبرا الخيمة    التصريح بدفن طالبة سقطت من البلكونة أثناء نشر الغسيل بالجيزة    مستشار الرئيس: مصر في الطريق للقضاء على مسببات الإصابة بسرطان الكبد    الصحة السعودية تؤكد عدم تسجيل إصابات جديدة بالتسمم الغذائي    صافرة كينية تدير مواجهة نهضة بركان والزمالك في نهائي الكونفدرالية    عفروتو يرد على انتقادات «التقصير والكسل»    حملات لرفع الإشغالات وتكثيف صيانة المزروعات بالشروق    «الرعاية الصحية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد القيامة وشم النسيم    «الإسكان»: دفع العمل بالطرق والمرافق بالأراضي المضافة حديثاً لمدينتي سفنكس والشروق    عاجل| مصر تكثف أعمال الإسقاط الجوي اليومي للمساعدات الإنسانية والإغاثية على غزة    إندونيسيا: 106 زلازل ضربت إقليم "جاوة الغربية" الشهر الماضي    «أتوبيسات لنقل الركاب».. إيقاف حركة القطارات ببعض محطات مطروح بشكل مؤقت (تفاصيل)    "دفنوه على عتبة بيتهم".. أبوان يقيدان ابنهما ويعذبانه حتى الموت بالبحيرة    "تطبيق قانون المرور الجديد" زيادة أسعار اللوحات المعدنية وتعديلات أخرى    5 ملايين جنيه إيرادات أفلام موسم عيد الفطر أمس.. السرب في الصدارة    تامر حسني يوجه رسالة لأيتن عامر بعد غنائها معه في حفله الأخير: أجمل إحساس    طرح البوستر الرسمي لفيلم «بنقدر ظروفك» وعرضه بالسينمات 22 مايو    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    ما حكم الإحتفال بشم النسيم والتنزه في هذا اليوم؟.. «الإفتاء» تُجيب    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    «القومي للمرأة» يشيد بترجمة أعمال درامية للغة الإشارة في موسم رمضان 2024    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    محافظ الوادي الجديد يهنئ الأقباط بمناسبة عيد القيامة المجيد    الصحة توجه نصائح هامة لحماية المواطنين من الممارسات الغذائية الضارة    رئيس هيئة الدواء يشارك في اجتماع «الأطر التنظيمية بإفريقيا» بأمريكا    بايدن يتلقى رسالة من 86 نائبا أمريكيا بشأن غزة.. ماذا جاء فيها؟    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    عمرو وردة يفسخ تعاقده مع بانسيرايكوس اليوناني    تشكيل أرسنال المتوقع أمام بورنموث| تروسارد يقود الهجوم    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    حفل ختام الانشطة بحضور قيادات التعليم ونقابة المعلمين في بني سويف    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسول الله

الدعوة المحمدية حررت المرأة فى الجزيرة العربية من البغاء
الصوفية جاءت رد فعل على الانغماس فى الملذات
تاريخ البشرية مجموعة من الوحى والإلهامات، فترنُّ من وقت إلى آخر صرخة ويدوى صوت فى الليل ويسمع نداء بين الصمت، فيصحو رجل ليسير على طريق الحق كإلياس وإبراهيم الذى فر من بلاد «كلدة» المحرقة، وذلك الرجل يمشى غير متوان ويداوم على القول إلى أن يوقظ الآخرين من نومهم العميق.
وهكذا تقوم نجاة البشر على سلسلة من الأفعال الحرة الطليقة، وتغذى طريق الخلاص بفيوض الشهداء والأولياء على الدوام، وهكذا نهض محمد ليدعو قومه إلى دين الواحد الأحد ولينبه غافل بعض آسيا وإفريقيا، وليحرر من رق التقليد جميع الذين يدركون حقيقة رسالته، وليجدد بلاد فارس الناعسة وليحث نصرانية الشرق التى أفسدتها التأملات الفاترة والتى حلها غير ملتحم الإيمان.
وشأن الأنبياء فى العالم كشأن قوى الطبيعة الكبيرة الهائلة النافعة، كشأن الشمس والمطر، كشأن عواصف الشتاء التى تهز الأرض وتثيرها لتتزين ببساط أخضر فى بضعة أيام، ويقدر الأنبياء بما أسفرت عنه رسالاتهم من النتائج، وأحسن فى بضعة أيام، ويقدر الأنبياء بما أسفرت عنه رسالاتهم من النتائج، وأحسن شهادة لهم ما يورثونه من راحة العقول وسكينة القلوب وشد العزائم والصبر على الشدائد وشفاء الأخلاق المريضة والأدعية والصلوات التى تصعد فى السماء.
يأتى الأنبياء، وهم الذين لا حول لهم ولا معين من البشر، وهم الذين يقاتلهم الناس غرورا بسر الحرية العليا، فيقولون: خير للإنسان أن يعصى الناس من أن يعصى الله الذى يتساوى الجميع أمامه وحده، والذى يجب على الجميع أن يسجدوا له دون سواه، ويقولون إن المقصد والمعنى أفضل من اللفظ والمبنى.
وقام محمد الأمى الذى لا يمت إلى العلم المطلق بصلة، والنقى الفطرى الكامل الطليق من فساد العقل والقلب، يدعو العلماء ليفقهوا ما يقولون، ويقول ما يتيه فيه الحكماء من معوج الطرق، فالناس حين يستمعون لكلامه الموحى إليه به ولأمثاله الملائمة لروح الزمن (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) يعود إليهم سابق اتصالهم بالسر المحيط بهم خاشعين لله عالمين كيف يسلكون أحد النجدين مهتدين إلى مبدأ حى ناطق لا يجدون مثله فى نصائح الفلاسفة وآراء أقطاب السياسة، وكأن ظهور محمد فى دور من أشد أدوار التاريخ ظلاما، فى دور كانت الحضارات التى قامت فى البلدان الممتدة من بلاد المغول إلى بلاد الهند مضطربة متداعية.
وبين محمد ومن تقدمه من أنبياء بنى إسرائيل شبه قوى، فكان، وهو نبى بمكة، كأشعيا فى بنى إسرائيل، وكان هو حاكم بالمدينة، كيشوع فى كنعان، وقد تسمى بمحمد، وحامل هذا الاسم من ينتظره اليهود فأبوا أن يدعوه بغير أبى القاسم، وبلغ محمد الأمى أنه بعث فى الأميين رسولا.
وكان محمد يعد نفسه وسيلة لتبليغ الوحى، وكان مبلغ حرصه أن يكون أمينا مصغيا أو سجلا صادقا للكلام المنزَّل، لكلام الله القديم الذى هو أم الكتاب، للكلام الذى تحفظه ملائكة كرام فى السماء السابعة، وسواء أكان هنالك فرق بين القرآن السماوى والقرآن المحفوظ فى صدور الناس أو المكتوب فى صحف أو فى عظام أو فى رق، أم لم يكن، وسواء أكان هنالك فرق بين الكلام الأزلى والكلام الزمنى أم لم يكن، نرى أن إدراكنا النسبى للمراحل الربانية فى العالم أيسر من إدراك معاصرى محمد العربى وعلماء المسلمين لها، فنحن نرى ملاءمة القرآن الوثيقة للأحوال، وأنه نزل يوما فيوما تبعا لمقتضيات سير الإسلام ومصالحه متناسخا، وإن لم يكن متناقضا، مقوما لأحكامه مداريا فيها ضعف المسلمين مجاريا لاعتراضاتهم.. وعند النبى أن الرسالة فوق الرسول.
ولابد لكل نبى من دليل على رسالته، ولابد له من معجزة يتحدى بها مختلفة عن كرامات الأولياء، فقد تحدى موسى سحرة فرعون بأن يأتوا بمثل ما أتى به من المعجزات، وقد حنى موسى شعبه الحرون بنى إسرائيل بنير من المعجزات، ولم يتكلم أحد مثلما تكلم عيسى الذى هو كلمة الله كما شهد به القرآن.
والقرآن هو معجزة محمد الوحيدة، فأسلوبه المعجز وقوة إيحائه التى لاتزال لغزا إلى يومنا يثيران ساكن من يتلونه، وكان هذا التحدى أقوم دليل لمحمد على صدق رسالته، وهذا لا يعنى الإشارة إلى قيمة أدبية خاصة فى القرآن، مادام محمد كارها للشعراء محترزا من أن يكون أحدهم، ومادام هنالك فرق بين وحى الله ونفث الجن.
ولا يستطيع أحد أن يشك اليوم فى إخلاص محمد، فحياة محمد شاهدة على اعتقاده صدق رسالته التى حمل أمانتها الثقيلة ببطولة، وإن قوة إبداعه وعبقريته الواسعة وذكاءه العظيم وبصره النافذ الحديد وقدرته على ضبط نفسه وعزمه المكين وحذره وحسن تدبيره ونشاطه وطراز عيشه مما يمنع عد ذلك الموحى إليه الموهوب الجلى مبتلى بالصرع.
ثم إن محمدا لم يدر فى خلده ثانية أن يجعل كلامه ملائما لذهنية معاصريه حتى يسهل إقناعهم واجتذابهم إليه، وإذا كان محمد قد استمال الناس إليه، فلم يكن ذلك بما هو هين سهل، بل بعرضه عليهم رسالته الساطعة القاطعة الحادة كالسيف المنفصلة عن أغراضه الشخصية، وإذا كان محمد عاد فى المدينة لا يكون النبى الصابر المتواضع كما كان فى مكة فلتبدل الأحوال، وفى ملاءمة الأحوال سر البقاء.. والرجل، كإنسان، قد هفا وضعف أحيانا، ولكنه كنبى، ظل مخلصا ثابتا لا يلوى، وهو وإن أمكن خطأه لم يكذب قط، وكيف يتصور المرء تحول الرجل إلى كاذب بغته (وهو الذى تتعذر نسبته إلى عدم الإخلاص فى بدء بعثته) ما ظل يرى انتصاراته دليلا على تأييد الله لرسالته؟ وكيف كان يجرؤ على إفساد رسالته فى وقت تأيد فيه؟.
وكان أكثر دعاء النبى: «يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك».
فقالت له زوجته أم سلمة: «ما أكثر دعاءك بهذا!».
فقال لها: «يا أم سلمة، إنه ليس آدمى إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ».
وفى القرآن عتاب لمحمد حين تولى أن جاءه الأعمى، وحين دعا على أعدائه وحين ونى نجاه زوجاته، إلخ...»
ولم تنشأ رؤى محمد ووحيه من مرض فيه، بل كانت تبدو عليه علائم المرض بسبب الرؤى والوحى، وهنالك ظواهر مشتركة بين مريض الأعصاب أو المهوَّس وبين الموحى إليه الصادق، فالأول منفعل غير فاعل والآخر مبدع فاعل، وهذا إلى أن من الجائز أن يقال إن البنية المريضة قليلا تساعد على التصوف ويزيدها التصوف مرضا، والحق أن محمدا كان مبرأ من مثل هذه الأمراض على الدوام، فقد كان تام الصحة إلى أن بلغ سن الكمال، ولم تبد العوارض عليه بعد هذه السن إلا عند تقبل الوحى. وأنت إذا ما استثنيت هذا وأنت إذا ما استثنيت المرض الذى استولى عليه فى الستين من عمره، رأيته لم يصب بغير وجع الرأس مرتين أو ثلاث مرات بسبب أسفاره الطويلة تحت وهج الشمس، ذلك الوجع الذى عولج بوضع المحاجم على رأسه.
وكان الوحى يأتى النبى على أشكال مختلفة بعضها أكمل من بعض، فأحياناً يأتيه مثل صلصلة الجرس فيفصم عنه وقد وعى ما قال، وهذا كان أشده عليه لما يؤدى إليه من الأوضاع الجثمانية ما ذكرنا، وأحيانا يتمثل له الملك رجلا (على صورة دحية بن خليفة الكلبى الذى كان من جميلى رجال عصره أو على صورته) فيعى ما يقول، وهذا الشكل الذى يعد أرفع من السابق هو دون الرؤيا الصادقة التى كانت تتفق للنبى فى بعض الأحيان. وهنا نذكر تقسيم علماء اللاهوت الكاثوليك للرؤى، التى تتدرج من الرؤيا الحسية إلى الرؤيا الخيالية فإلى الرؤيا الذهنية، فنقول: إن هنالك فرقا بين وحى الأنبياء الذى يسفر عن تبليغ رسالة أو نصوص شريعة أو أوامر قاطعة وإلهام الأولياء النفسى الذى تفيض عنه الحياة الباطنية المتحولة.
وقد أوصى القرآن النبى فى أمر الوحى بالآية: «لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه».
وكان محمد، وهو البعيد من إنشاء القرآن وتأليفه، ينتظر نزول الوحى إليه أحياناً على غير جدوى، وهذا ما كان يؤلمه، فكان يود لو يأتيه جبريل متواتراً.
وأظهر ما فى القرآن عدم ترتيب آياته المحفوظة وقلة المطابقة بينها، ولم تدون الكتب المقدسة إلا بعد تبليغها بطويل زمن، أى حين يكون حفظها قد ضعف وتكون رواياتها قد كثرت، ومثل هذا أمر القرآن الذى اختير له نص رسمى بعد النبى بسبعين سنة فأتلف ما سواه.
كان أربعة من الأنصار يحفظون القرآن عن ظهر القلب حين وفاة النبى، وهم: معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبى بن كعب وعبدالله بن مسعود، ثم أشار عمر بن الخطاب على أبى بكر بجمع القرآن مع كره أبى بكر لذلك، ومع ما خامر زيد بن ثابت، ففوض أبو بكر إلى زيد بن ثابت أن يجمع القرآن بجمعه ما هو مكتوب من آياته على الفخار والخوص وعظام الكتف وما هو محفوظ فى صدور الرجال، ثم عهد الخليفة عثمان بن عفان إلى زيد بن ثابت وثلاثة من قريش فى إقرار نسخة واحدة للقرآن معتمدين فى ذلك على النسخة التى كانت قد حفظت عند زوجة النبى حفصة، ثم أمر عثمان بحرق النسخ الأخرى، فاعترض عبدالله بن مسعود الذى قال النبى عنه: «استقرئوا القرآن من عبدالله بن مسعود...» على هذه النسخة التى لم يشترك فى جمعها، فأمر عثمان بجلده. وأما آخر مصحف اعتمد عليه فهو المصحف الذى صنع الحجاج من أجله مثلما كان عثمان قد صنع.
ولم يرتب القرآن ترتيباً منطقياً، بل وضعت الآيات التى وجدت بعضها بجانب بعض، وفتح القرآن بأطول السور، وهى التى أنزلت بالمدينة على العموم، وختم بأقصر السور، وهى التى أُنزلت بمكة فى الغالب.
ولم يكن محمد من علماء اللاهوت الذين يبحثون فى كنه الله، بل كان ثملا من الله، فالله عنده هو الحق، هو واجب الوجود، ولم يكن العرب لينكروا الله العلى الخالق، بل كانوا يرونه فى أقصى السماوات فكانوا لا يخشونه إلا قليلاً، وكانوا لا يفكرون فى حبه، وكانوا يبدون له من التعظيم أقل مما للجن والأصنام التى كانوا يرجون منها نفعاً صحيحاً وعونا محكماً.
والعرب، إذ كانوا يرون بعد الله وقرب الأصنام، كان لصنم كل قبيلة منهم كُهان وعرافون ينطقون باسمه وحماة متعصبون يعارضون به الآلهة الأخرى. ثم جاء محمد فجعل الحق حاضراً، وأرجع الملائكة والجن إلى موضع التابع لا المتبوع، فكان الله بذلك أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد. ووجود الله ثابت بوجوب موجود مدبر للأمور ومحدث دائم للحوادث، «لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، الله أكبر»، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن والواحد والحى والعلى والقوى والخالق والكبير واللطيف والمهيمن والعزيز والمجيد والملك القدوس والحكم العدل والرزاق والحق والعليم والغنى الباقى والوارث والحكيم والشهيد والمؤمن والهادى والحفيظ والرقيب والوهاب والحسيب والمجيب والمقيت والمبدئ والمعيد والعفو والغفور والرحمن والرحيم.
ولله الحجة البالغة، ولا يسأل عما يفعل، وهو يحب العفو، وهو الذى كتب فوق العرش: «إن رحمتى تغلب غضبى»، وهو يعفو عن العافين، فعلى الإنسان ألا يعيش إلا ليعبدالله والله غنى عن العالمين، وعلى الإنسان أن يبتغى وجه الله وألا يعمل إلا لوجه الله، فكل شىء هالك إلا وجهه.
ومن كرم الله وعفوه راحة النفس ورضاها، وهذا ما يناله الإنسان بالصلاة والصوم وإنفاقه مما يحب.
وإذا كان القرآن لا يردد الوحى النصرانى الكبير الذى أفصح عنه يوحنا بأن «الله هو المحبة» فإن محمدا لم يجهل أن الله يحب ما خلق أكثر من حب الأم لابنها، فقد قال: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل فى الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه».
وجاء فى القرآن: «ولا تستوى الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم».
والإيمان بلا محبة وبغير ما تقتضيه هذه المحبة من الأعمال هو إيمان خامد، فعلى المسلم ألا يترك للغضب والحقد والحسد والثلب والغيبة والتكبر إلى قلبه سبيلا، قال النبي: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله عنه». والنبى طلب، كعيسى، أن يترك الإنسان أمه وأباه مهاجرا إلى الله، قال النبي: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
والله العلى (الذى فصله العلماء من العالم بما لا يوصل إليه) يبلغ بالمحبة، والله العلى هو ملك الضعفاء، والله الكبير هو رب الوضعاء، والله الخالق هو الودود. قال النبي: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى، ولكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بى غضبك أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.
وكان النبى يعلم أن الدين الصحيح والعبادة بالروح، قال النبي: «إنما الأعمال بالنيات...» وقال النبي: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه».
وجاء فى القرآن: «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون»، وجاء فى القرآن: «لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم.»
وقال النبى يوما: «لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره».
والمحبة مما يجب أن يكون شاملا لجميع الخلائق مادام أصغر الطيور يسبح لله ببسط جناحيه.
وكان للدعوة المحمدية فى جزيرة العرب أثر عظيم ثابت فى تقدم الأسرة والمجتمع والصحة، فقد حسن بها مصير المرأة، وحرم بها الزنا والمتعة وحياة الغرام، ومنع بها إكراه القيان على البغاء لإثراء سادتهن.
والإسلام، وإن أباح الرق، نظم أحكامه، فعد فك الرقاب من الحسنات ومكفرا لبعض السيئات، قال النبى، «أينما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منع عضوا منه من النار»، وقال النبي: «من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله تعالى».
وقد دعا أبو ذر بلالا بابن الحبشية معيرا فقال له النبي: « يا أبا ذر، إنك امرء فيك جاهلية». وقال النبي: « لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى، كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامى وجاريتى وفتاى وفتاتى». وقد كسر ابن النضر سن رقيق مرة فاقتص النبى منه.
وقال النبي: «بينما رجل يمشى بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى بلغ منى، فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب فشكر الله فغفر له»، فسئل النبي: «وإن لنا فى البهائم لأجرا؟». فقال: «فى كل ذات كبد رطبة أجر».
والإنسان حين يرى الآن كيف تعامل الحمير فى إفريقيا الشمالية مثلا يعجب من درجة نسى الناس للأحاديث الكثيرة التى تحث على الرفق بالحيوان. ومحمد قد لعن من يبتر حيوانا، وحظر ذبح حيوان عمدا لغير ضرورة، وابن عمر قد ذكر ذلك فأنقذ دجاجة من صبية أرادوا اتخاذها مرمى، وروى أن الحيوان يشكو يوم الحساب من يعذبه، وأن هرا يخمش امرأة فى النار خمشا متواصلا لأنها تركته يموت جوعا بحبسه، وأن عاهرة تدخل الجنة لأنها رأت ذات يوم كلبا واقفا على حافة بئر لاهثا من شدة العطش فاستخرجت له الماء بخفها الذى ربطته بخمارها.
وأنت إذا ما نظرت إلى علماء الكلام وعلماء الأخلاق والفقهاء والصوفية من المسلمين وجدتهم يلتمسون من تعاليم الإسلام براهينهم مع اتجاه كل واحد منهم إلى ناحيته الخاصة، وأنت إذا ما نظرت إلى المذاهب الاسلامية وجدتها تستند إلى أحاديث النبى الصحيحة أو الموضوعة فى تأييد آرائها المتناقضة، وإلى هذه الأحاديث قد استندوا فى حل كبريات مسائل ما بعد الطبيعة مع رغبة محمد عن توكيد أمرها، فأنت إذا ما أخذت معضلة الإرادة مثلا رأيت الجبريين وخصومهم القدريين يبحثون عن الأدلة التى تؤيد دعاواهم فى القرآن والحديث، وترى القرآن مع توكيده قدرة الله على كل شيء وإحاطة علمه بكل شىء ومع قوله:
«قل كل من عند الله» يقول «وما أصابك من سيئة فمن نفسك»، وفى القرآن آيات مؤيدة للإرادة وآيات نافية لها، والإثبات والنفى هما طرفا السلسلة التى لم تمسك روح البشر بحلقاتها المتوسطة. والمسلمون، وإن مالوا إلى «الجبرية الشرقية» فى دور الانحطاط على الخصوص، لا ترى فى الإسلام ما يحملهم عليها خلافا لما اعتقده لايبنتز بسيره وراء الرأى الدارج. ومما حدث أن أعرابيا سأل محمدا عن ضرورة عقل ناقته، فقال له:» اعقلها وتوكل»، وأمر محمد بألا يدع الإنسان العمل اتكالا على القدر.
ثم لا تنس عوامل البيئات والأزمات والطبائع والعادات فى تقرير المبادئ، فانظر إلى العالم الرومانى المتمدن المترف المنغمس فى الشهوات والذى دب الانحطاط فى مفاصله تجد قدماء النصارى قد قاوموا فيه حب اللذات الشامل، ولما ظهر الإسلام فى بلاد العرب ذات العادات الطليقة الغليظة معا دمغ المسلمون الأولون ما ألفه المشركون. وانظر إلى الأعراب العراة الجياع الساكنى القفار تجدهم كانوا محرومين أطايب النعم طوعا أو كرها، وأنهم لما تيسرت لهم هذه الأطايب أخذوا يتمتعون بها تمتع كبار الأولاد السذج الهائجين، وأن الثروات لما عظمت وكثرت الأموال وكان ما أدت إليه من ضروب الترف كان رد فعل، فبدا ورع الصوفية وزهدهم فى المجتمع الذى عاد أبناؤه لايكونون رجال حرب أو رعى.
والزهد أظهر الأمور فى فجر الأديان، فما فتئ القرآن يقول: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور... وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهى الحيوان) وشبه سلمان، كما شبه بسكال، المؤمن بالمريض الذى يمنعه الطبيب من أكل ما يشتهى وعمل ما يضر. وكان ابن عمر يرى الإنسان فى هذه الدنيا غريبا عابر سبيل، وقال النبي: «لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا». ولم يأل النبى جهدا فى إدخال هذا المعنى إلى قلوب الأعراب، ومن هذا أن النبى لما عاد أعرابيا اشتد عليه المرض قال له: «لا بأس طهور». فقال الأعرابي: «كلا بل هى حمى تفور، تسوقنى إلى القبور»، فقال له النبي: «فليكن ذلك». وكان النبى يفيق من نومه أحيانا مذعورا من هول يوم الحساب فيجمع جميع نسائه ليلا ليعظهم، وكان الصحابة يكثرون من الاستغفار والورع، وكان أبو طلحة أكثر أهل المدينة نخيلا، وكان يملك حديقة وكان النبى يتردد إليها ليشرب من مائها العذب، فلما سمع أبو طلحة قول القرآن: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم»، عرض على النبى تلك الحديقة ليضعها حيث شاء، فسر النبى منه وأشار عليه بأن يجعلها فى الأقربين وحدث مرة أن رجلا من الأنصار هرع إلى المسجد وجلس على ركبتيه وأخذ يضرب زوجته وهو ينعتها بالزانية، فلم يقل محمد كلمة وأعرض عنه، ثم لحقه الأنصارى وكرر قوله أربع مرات، فيروى أنه جلد لذلك.
وكان الكثير من المسلمين يكثرون من التوبة والاستغفار والصلاة والصوم، فرأى محمد أن القصد أولى من الإفراط فأمر بألا يزيد الصوم على يوم من يومين،
وأشار بالاعتدال فى التقشف وبترك كل ما يميت النفس، وحدث أن بعضهم كانوا قد قادوا أنفسهم إلى الحج بربط أنوفهم بأرسان الجمال فقطع محمد هذه الأرسان لأن الله ليست له حاجة بجدع الأنوف.
وقد تساءل الناس فى صدر الإسلام عن تحريم الكمالى وعن مخالفة ادخار ما يزيد على الاحتياج للشرع..
وكانت خطب النبى مؤثرة للغاية، وكان النبى يكرر، فى الغالب، الأمر الواحد غير مرة حتى تستولى على سامعيه خشية.. وحدث النبى ذات مرة عن عذاب القبر بفصاحة فعلا عويل الحاضرين، وكان يغضب إذا ماسئل عن تافه الأمور حين خشوعه، وكان يسهل عليه وصف رحمة الله التى وسعت كل شيء وبيان ما يلاقيه المصطفون الأخيار من السعادة والنعيم، وكان لاينفعك، مع ذلك، يعود إلى الإنذار والوعيد.
سيكون الناس سكارى بغير خمر، وسيكون الولدان شيبا، ولكن أين يكون المفر؟ وسيظهر ثلاثون دجالا، وستلد الأمة سيدها وسيقيم رعاة الإبل بالقصور، وسيشيد الناس شامخ المبانى، وسيحشر الناس حفاة عراة غرلا.
فسألت عائشة الذكية النبي: «يارسول الله، النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟» فقال النبى: «ياعائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
وسيغطس الناس فى بحر من العرق حتى أعناقهم حياء تحت شمس محرقة، وعلم الساعة عند الله وحده، وهى ستأتى بغتة، (فعلى الناس أن يستعدوا لها إذن)، والحق أنه لا يكون، حين تقوم الساعة، لدى الرجلين من الوقت ما يتمان فيه بيع ثوب بسط أو طيه، والحق أنه لا يكون، حين تقوم الساعة، لدى الرجل من الوقت مايزدرد فيه لقمة طعام وضعها فى فمه.وتنظيم المجتمع الإسلامي عمليا من أهم ما عني به النبي، فكان القرآن دستور هذا المجتمع، وحددت في السنوات الأولي من الهجرة أركان الإسلام الخمسة وهي:
الصلاة والصوم والزكاة والحج والشهادة بوحدانية الله. ونظمت السنة أمر هذه الأركان، ومن ذلك أن اقترح فريق من المسلمين اتخاذ النوافيس كالنصاري، واقترح فريق ثان اتخاذ الأبواق كاليهود، واقترح فريق ثالث إيقاد النيران كالمجوس، فأشار عمر بن الخطاب علي النبي بالأذان، فأوعز النبي إلي بلال الحبشي بأن يدعو المسلمين إلي الصلاة بصوته القوي، فأصبح بلال بذلك مؤذن النبي الراتب وأول المؤذنين الذين مافتئوا منذ ثلاثة عشر قرنا يؤذنون خمس مرات في كل يوم قائلين من فوق المآذن: الله أكبر..
وبلال الطويل النحيف الأحدب الأشمط الكثيف الشعر هو الذي كان يمشي أمام مولاه، حاملا حربة بيده، للاحتفال بعيد الفطر وعيد الأضحي في أبواب المدينة.
وشعائر الإسلام، ومنها الفروض ومنها النوافل، لم تشرع لمقاصد صحية خلافا لما ذهب إليه المعاصرون، بل كانت لتنظيم مظاهر العبادة ولتوثيق عرا المجتمع وبذر التقوي في القلوب، وإعداد بعض المؤمنين لحياة النسك والتصوف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.