لو علم محبو الأكاديمى الفرنسي، اللبنانى الأصل، غسان سلامة حجم الأخطاء السياسية التى ارتكبها لما جلسوا يوما واحدا أمامه فى قاعات الدرس، أو سمعوا شروحه العلمية المبسطة. فقد تسببت تناقضاته وازدواجيته فى تعقيد الأزمة الليبية بدلا من حلها. وحرص على تهيئة الفرصة بعد الأخرى لتمكين تيار الإسلام السياسى بأى ثمن، حتى لو تمت التضحية بمئات الآلاف من أرواح الليبيين. لم أعرف الرجل عن قرب، ولا أحبذ التقليل من قيمة أحد، مهما يبلغ ضعف أفقه وقلة حيلته، لكن تابعت خطوات سلامة فى الأزمة الليبية وجميعها تؤكد أنه لم يحسن اختيار الطريقة المناسبة للتعامل مع تفاصيلها. ولديه إصرار عجيب على الرضوخ للأفكار الخيالية، وعدم استعداد لإصلاح الأوضاع بواقعية. كأن الخبرات التى تحصل عليها من تجربته السابقة فى العراق لم تترك علامات إيجابية، بل زادته صلفا وغرورا، وجعلته يذيب المسافات بين دوره كموظف دولى مقتدر وبين رغبته الدفينة فى أن يكون مندوبا ساميا يريد تطويع الإرادات الوطنية لأهوائه السياسية. سواء كانت الأخطاء الفادحة التى ارتكبها عن قصد أو جهل، ففى الحالتين سوف يحاسبه التاريخ على ما فعله فى حق ليبيا، بما أدى إلى تطويل عمر أزمتها. فالرجل سن سيوفه السياسية واستخدم مفردات لا تليق بمن فى منصبه الدولى ووجه لوما لاذعا للإمارات وفرنسا على دعمهما جهود مكافحة الإرهاب، ولم يجرؤ على توجيه عبارة سلبية واحدة لكل من قطروتركيا، المعروفتين بالوقوف خلف التيارات المتشددة واحتضان الميليشيات. تجاهل الهجوم على سفن الموت القادمة من تركيا وإيران جهارا وتحمل أسلحة ومعدات مدمرة. لم يجرؤ على إبلاغ لجنة العقوبات الدولية عما يجرى من انتهاكات مستمرة من قبل الدول التى تخترق حظر تصدير الأسلحة إلى الموانى الليبية. لم يتوقف لحظة عند التقارير التى تثبت بالأدلة الدامغة علاقة الدوحة وأنقرة بالمتطرفين والكتائب المسلحة. لم يمهل نفسه فرصة للتفكير فى معنى تنقلات الكثير من القيادات المتشددة بين العاصمتين، ومصادر التمويل التى تتلقاها التنظيمات المسلحة فى طرابلس، والأساليب التى تتفنن فى القتل على الهوية. لم يهتم بميول قطاع كبير فى المجتمع الدولى يحاول قطع رءوس الإرهابيين والتخلص من شرورهم. لم يلتفت لطبيعة الحرب الضروس لتجفيف منابعهم فى العالم. يتعامل مع تكاتف القوى الإقليمية والدولية فى هذه المسألة باستهانة بالغة. يريد أن تسود الليونة عند الاقتراب من شياطين المتطرفين. يرفض تصديق أن هناك تغيرا فعليا فى التعامل مع الإرهابيين فى ليبيا وغيرها، وأن المعادلة المختلة على وشك غلق بعض فصولها. اهتم سلامة بتوجيه انتقادات للمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطنى الليبي، ولامه كثيرا على رغبته فى تنظيف جيوب العاصمة من الإرهابيين واستعادة الأمن والاستقرار فى البلاد. وبدا كمن يدافع عنهم ويقف فى صفهم بما يتنافى مع مهمته كمبعوث أممي، وكمثقف كبير يرفض الحجر على أفكار الآخرين. اتهم حفتر بالانقلاب على السلطة السياسية ولم يقدم إجابة شافية ومحددة عن فحوى هذه السلطة التى تمنح شرعية لمجلس رئاسى يضم محمد عمارى القيادى بالجماعة الليبية المقاتلة. امتنع عن سماع صوت العقلاء الذين طالبوا بالتعجيل بإصلاح المجلس الرئاسى ليكون كيانا معبرا بحق عن طموحات الشعب الليبي. أثارت توجهاته الملتبسة علامات استفهام كبيرة حول جدوى الدور الذى يقوم به، وميله الجارف لصف فريق على حساب آخر، كأنه يوحى للعالم بشيء ما يجهله، أو يريد أن يثبت أن الشمس تشرق من المغرب، والعالم سيقبل بحكم الميليشيات لفترة طويلة. نسى أن التاريخ لن يرحم من أسهموا فى إهدار فرصة كانت من الممكن أن تتحول إلى أمل لوقف العنف فى ليبيا. أجهض العديد من المبادرات الهادفة للتسوية السياسية المستقرة. تمسك بتصورات زائفة أقنعه بها البعض، تقول إن حكم الجماعات العقائدية يمكن أن يدوم قليلا. خسر سلامة جانبا كبيرا من نزاهته كأكاديمى ومصداقيته كسياسى بسبب انسياقه وراء خدع وأكاذيب ذهبت إلى أن ليبيا سوف تكون بوابة ملكية لتمكين الإسلاميين فى المنطقة. لم يلعب الدور الذى جاء من أجله إلى ليبيا، ويكون مبعوثا دوليا مهمته التوفيق بين الأطراف المتصارعة ووقف العنف، بدلا من الانشغال بالانحياز لطرف معين، أو إثبات نظريات على الأرض تشبه العثور على العنقاء والخل الوفي. أصر على انعقاد الملتقى الجامع وسخر أدوات الأممالمتحدة ونفوذها من أجله. استقطب دولا كانت مترددة لتقف إلى جواره. وفى النهاية أعلن إلغاء الملتقى الذى راهن عليه، لأنه تعود التفكير بطريقة أحادية. لم ينصت جيدا لمن هم على دراية بالتركيبة السياسية والاجتماعية فى ليبيا، وفضل الاستماع لوجهات نظر مشوشة ومغرضة تجتهد فى كيفية بقاء الدولة على حالها من الفوضى، ورهينة للانفلات، فحكم القانون والمؤسسات النظامية وقبضة الجيوش الوطنية لا تصلح مع من أدمنوا التعايش فى كنف الميليشيات وحماية المتطرفين. أفضت الكثير من تصرفاته إلى منح المتشددين والكتائب المسلحة شرعية لم تحدث فى دول عديدة. كان الملتقى الجامع، حال انعقاده، سيقود إلى ظهور أجسام سياسية جديدة، ووضع رموز المتطرفين على سدة السلطة، من دون مراعاة لما تحدثه هذه الخطوة من انقلاب على منظومة القيم الدولية الراسخة. أوحى للبعض أن البديل للتحركات المشبوهة نشوب حرب أهلية، وتبين أن تنفيذ إجراءاته كانت ستؤدى إلى معارك من الصعوبة إطفاء نيرانها. رفض بقسوة سياسية ما يقوم به الجيش الوطنى الليبى من قهر للميليشيات ورغبة فى ترتيب الأوضاع الأمنية فى طرابلس. تناسى سلامة أن ممارساته الطويلة وفرت غطاء التحف به المتطرفون، وتمادوا بموجبه فى العنف وتهديد حياة المواطنين. كما رضخ للابتزازات التى مارستها عليه دوائر خارجية، واستسلم للضغوط التى جاءته من جهات داخلية. هل يمكن لمبعوث أممى يفتقر لأبسط قواعد الحياد القيام بدور إيجابى فى أزمة أمنية متشابكة وعملية سياسية معقدة؟ هل يمكن لمبعوث دولى وقع فى سلسلة ساذجة من المشكلات يستطيع أن يفك شفرة رموز أزمة تبدو عصية على فهم قوى دولية كثيرة؟ أى دور يبحث عنه سلامة من وراء ترك الجناة يمرحون فسادا فى الأرض الليبية، ولا يتوقف عن إدانة من يعملون على دحرهم؟ لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل