تستدعى كلمةُ الانتصار إلى أذهاننا صورةَ مجدٍ تكللت به رحلةٌ من الكفاح والجهد، قمةَ جبلٍ عالٍ يستدعى تسلقُه التغلبَ على تحدياتٍ صعبة والسير فى طريق آلام لا مفرَّ من خوضه. وهكذا أيضًا يأتى حدثُ القيامة، معلنًا نصرةً على عهدٍ من الظلام والفتور الروحى وانقطاع التواصل مع الله، نصرةً على يأسٍ مريرٍ سجن الكثيرين داخل دائرة مُفرغة من الخوف والحزن والقنوط. أزالت القيامةُ هذه الصورة الكئيبة لترسم صورةً بالألوان المبهجة لانتصارٍ عظيمٍ. قبل أسبوعٍ من قيامته، دخل السيد المسيح أورشليم بصورة ملكٍ منتصر، وهتف له الناسُ وفرشوا ثيابهم على الأرض ليسير بدابَّته فوقها، ورفعوا سعف النخيل وأغصان الزيتون فى استقباله. انتظر هؤلاء الهاتفون مسيحًا سياسيًّا، يخلصهم من الاحتلال الرومانى الذى انتهكهم وأنهكهم، غير أن السيد المسيح كان يدرك أن هذه ليست رسالته، إذ أكد أن مملكته ليست أرضية (إنجيل يوحنا 18: 36)، وأن معركته ليست مع احتلال سياسى على الأرض، وإنما ضد احتلال الشر للقلوب، وسيطرة التدين الزائف على سلوكيات الناس، فثبَّت وجهه إلى أورشليم سائرًا فى طريق الآلام مبتغيًا الانتصار. لا ينبغى أن تشتتنا توقعات الآخرين منا ونحن فى منتصف الطريق عن غايتنا، ويجب ألا تصرف أنظارنا عمَّا نصبو إلى تحقيقه. كان السيد المسيح يدرك أن انتصاره الحقيقى لم يأتِ بعد وأنه يجب أن يجوز طريقًا من الآلام والتحديات، إلى أنْ يقيمَنَا مَعَهُ، لنهتفَ فرحينَ. أعلنت القيامة انتهاء مرحلة من الجفاف الروحى والجمود الدينى والفهم الخاطئ لمقاصد الله تجاه البشرية، والتغلب على تحدياتٍ كثيرة شهدتها مرحلة ما قبل مجيء السيد المسيح: انقطاع التواصل مع الله : لمدة 400 عام، لم يرسل الله أنبياء لبنى إسرائيل، حيث كان آخر نبيٍّ قبل مجيء المسيح هو النبى ملاخي. 400 عام من انقطاع التواصل مع الله، من التِّيه والتخبط والظلام والانهزامية، مرحلة جافة وقلقة، سيطر فيها الجمود على كل شيء، على الشريعة وعلى الناس والمجتمع والعلاقات. إحساس عميق بالاغتراب، عطش داخل نفس الإنسان لا يعرف له إرواءً، بسبب غياب التواصل مع الله. مسحاء كذبة: فى مرحلة متخبطة من انقطاع التواصل مع الله، لا يتورع بعض المخادعين عن استقطاب الناس، مدَّعين أن بيدهم الخلاص، خادعين الناس بالأوهام والأكاذيب. وشهدت هذه المرحلة ظهور العديد من الشخصيات التى ادَّعت أنها المسيح المنتظر، واختطفت أتباعًا كثيرين، وفى كل مرة كانت المواجهة تنتهى بهلاك هؤلاء المخادعين وأتباعهم. تفشى العنف: هذا الشعور بالانهزام والتيه والتخبط يدفع البعض لسلوك طريق العنف والتدمير، فظهرت فى هذه المرحلة جماعاتٌ ثوريةٌ كالغيورين تستخدم العنف فى قتال المستعمر الرومانى واليهودى المتعاون معهم. الجمود الدينى والتدين الزائف : غياب الوحى وصعود أنماط تفسيرية جامدة أسهمت فى جمود الممارسة الدينية، ولعل الويلات التى وجهها السيد المسيح للكتبة والفريسيين هى بمثابة زلزال دينى للمؤسسة الدينية فى ذلك الوقت. لقد وبَّخ السيد المسيح هذه الفئة بوضوحٍ على اهتمامها بالشكل الخارجى للتديُّن وانفصال هذه الممارسات الطقسية عن سلوكهم، وعلى الازدواجية القاتلة الذى يعيشها كلُّ مُراءٍ، إذ قال لهم: «هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا» (إنجيل متى 23: 28)، وبَّخهم السيد المسيح لأنهم حادوا عن الهدف الرئيسى للناموس والشريعة، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ (إنجيل متى 23: 23). الجماعةُ الأولى والطريق إلى الانتصار : أراد السيد المسيح أن ينشئ جماعةً متنوعةً فى الخلفيات والإمكانيات؛ فكان من بين تلاميذه أنماطٌ عديدةٌ من انتماءات دينية وسياسية فى وقته، واستغرق السيد المسيح وقتًا ليس بقليلٍ فى إعادة صياغة أفكار هذه الجماعة وترتيب أولوياتها وتهذيب رؤيتها الدينية، جزءٌ من هذه الجماعة انتظر من السيد المسيح دورًا سياسيًّا، لكن السيد المسيح استطاع أن يحتوى كل الأطراف، ويغير الفكر ويزيد الوعى بمرور الوقت، ليعد هذه الجماعة الأولى إلى القيامة والانتصار. التمسك بكلمة الله ووعوده، هو جزء أساسى من دعوة السيد المسيح للجماعةُ الأولى، كما أن من الضرورى أن نراجع دائمًا قراءتنا لمشيئة الله وإرادته؛ فجزء من الجماعة أراد استخدام حدث دخول المسيح الانتصارى إلى أورشليم استخدامًا سياسيًّا؛ هذه الجماعة لم تقرَأْ قصدَ الله؛ فالحسابات الإلهيَّة مختلفة وطريق الآلام كانَ أكثرَ تعقيدًا ولكنَّهُ أكثرُ شموليةً. فى كثيرٍ من المراتِ، يدفعُنا عدمُ فهمِنا لمشيئةِ الله إلى فشلٍ وإحباطٍ سريعٍ، لكن لا ينبغى أن نستسلم للفشل بسهولةٍ. كما لا ينبغى أن نحكم بظواهرِ الأمورِ؛ فالَّذينَ فسَّروا انتهاءَ الدخولِ الانتصاريِّ بفشلٍ كبيرٍ لأنَّ رؤيتَهم الضيقةَ لم تتحقَّقْ، حكَمُوا على ظواهرِ الأمورِ، ولكنَّ الذينَ اجتازوا الموتَ والقيامةَ أدركوا أنَّ هناكَ طريقًا أفضلْ. الحكمُ على ظواهرِ الأمورِ يقودُنا إلى إحباطٍ وفشلٍ سريعٍ. الدخول الانتصارى مرتبط ارتباطًا وثيقًا بانتصارِ القيامةِ، ومعَ أنَّ الرحلةَ بينَ طريق الآلام ونصرة القيامة رحلةٌ شاقَّةٌ ومضنيةٌ وبها رائحةُ الموتِ، إلَّا أنَّ رائحةَ الانتصارِ هى التى سادت. فلا تتعجَّلوا النتائجَ؛ ثقوا بربِّ الانتصارِ؛ فالانتصارُ الحقيقيُّ لم يكنْ فى الدخول إلى أورشليم، ولكنَّه كانَ فى طريق الآلام ثم القيامة. انتصار القيامة يدفعنا للانتصار فى حياتنا الشخصية ضد كل ما يقيدنا، ضد كل ما يعوقنا عن التغيير والتطوير المستمر. يدفعنا إلى الانتصار على نقائصنا وضعفاتنا، إلى اختبار قيمنا وروحانياتنا وقياس مدى ملاءمتها مع سلوكياتنا، تجاه أسرنا وأعمالنا وتجاه المجتمع ككل. إننى أصلى من أجل انتصارٍ يملأ حياتنا بالقوة، يحررنا من ذواتنا يطلقنا إلى الإيثار ومحبة الآخر وقبوله والتعاون معه من أجل مجتمع أفضل. أصلى لبلادى أن تستمر فى مسيرة الانتصار الحقيقى على كل الأصعدة، أن تنتصر على الإرهاب، أن تنتصر فى معركة التنمية والتطوير والوعي. وأن يعم السلام أرجاءها وتتعمق أواصر المحبة بين أهليها، فهذا هو الانتصار الحقيقي. لمزيد من مقالات د. القس أندريه زكى