ونحن نحتفل بذكرى مئوية ثورة 1919 فى منتدياتنا الإعلامية والأدبية ومنابرنا الثقافية والتاريخية، وفى جامعاتنا المصرية، باعتبار- وكما أجمع أساتذة التاريخ المعاصر - أن ثورة 1919 هى أول ثورة حقيقية مصرية خالصة من صناعة المصريين، جاءت مكتملة الأركان، ونجحت فى تغيير وجه الحياة السياسية والاجتماعية والإنسانية فى مصر. وبعيدًا عن أروقة الثورة السياسية والمدنية، وتغيير وجه الحياة فى مصر .. يظل السؤال الذى يطرح نفسه، هل تركت الثورة آثارها على حركة الأدب فى مصر بصفة خاصة، والفكر بصفة عامة؟ خاصة مع وجود أكبر الرموز المجددة على مستوى العالم العربى فى المحروسة آنذاك على رأسهم كوكبة التجديد شوقى وحافظ والعقاد وطه حسين والمازنى ومحمد حسين هيكل وشكرى وناجى وعلى محمود طه وصالح جودت وغيرهم، هذا غير من استوطنوا مصر أمثال خليل مطران وإيليا أبى ماضى وميخائيل نعيمة من بلاد الشام، وأول ما نلاحظه على هذه الرموز الكبيرة، هو تقارب أعمارهم فى فترة الثورة ذاتها، فشوقى ولد سنة 1868 ، وحافظ ولد بعده بأربع سنوات سنة 1872 م وتوفيا فى عام واحد 1932، ومحمد حسين هيكل 1888 ، وولد العقاد وطه حسين والمازنى فى عام واحد 1889 فى مفارقة غريبة ونادرة، وعبد الرحمن شكرى فى عام 1886 وتوفيق الحكيم وأحمد زكى أبو شادى بعدهم بعدة سنوات فى 1898 ، ثم يأتى بعدهم جيل على محمود طه ونجيب محفوظ وصالح جودت فى مطلع القرن العشرين، وكلهم من كوكبة المجددين بلا خلاف، وجاءت شعارات الثورة، ومطالب الحرية لتدفع أدبهم بصفة عامة ليتوازى مع الخط العام للثورة، فجاءت حركة الثورة ومطالب التحرير الشعبى لتحرر أدبهم من أصل قيوده، فنرى شوقى يترك القصر ليلتحم بالأمة وشبابها ويتحفنا بوطنياته على سياق جديد من أنماط الإبداع، فيترك ألفاظه ومعانيه وصوره وخيالاته، ويستغنى عن قوالب محاكاته للقديم، خاصة بعد هجوم العقاد عليه، ويتجه للمسرح الشعرى، وللكتابة للأطفال، والأمر ذاته لحافظ إبراهيم بعد هجوم المازنى عليه فى الفترة نفسها، وتظهر وطنياته على شكل جديد ومؤثر، ومنها عمله الخالد «وقف الخلق»، وتخرج من رحم الثورة أول رواية مصرية حقيقية «زينب» لمحمد حسين هيكل، والتى كتبها فى عام 1914 تحت اسم «فلاح مصرى» مخافة الاعتقال والمحاسبة، ثم يعيد إصدارها بعد الثورة باسمه ليكشف بجرأته الفنية عن أحوال البؤس فى الريف، ومآسى المرأة فى مجتمعات الظلم والإجحاف. ثم يأتى توفيق الحكيم ليصدر روايته التاريخية «عودة الروح» التى نقلت انطباعاته عن الثورة، ووصفها بأنها الشرارة الأولى، مستشرفا من خلال روايته لثورة جديدة، تعيد على حد قوله مصر للمصريين، وبعدها يطلق عيسى عبيد مجموعته الجريئة «إحسان هانم » والتى أهداها إلى زعيم الأمة سعد زغلول ليهاجم سياسات الرضوخ للمستعمر، واستسلام القصر لمطالبه، فى رواية مالت إلى الرمز أكثر من ميلها للحقيقة، ثم يأتى طه حسين فى ظلال الثورة ليصدر كتابه الذى ظل حبيس الأدراج «تجديد ذكرى أبى العلاء»، والذى بسببه لاقى هجومًا شرسًا من الجمعية الشرعية فى مصر، واستدعى تدخل سعد زغلول نفسه لتخفيف وطأة الهجوم عليه.ثم تبدأ فى مصر ثورات التصحيح والتجديد الشعرى من خلال مدارس الشعر والنقد الجديدة مثل مدرسة العقاد والمازنى وعبد الرحمن شكرى «الديوان» والتى ظهرت على الساحة على أثر تأليفهم كتاب «الديوان فى الأدب والنقد» سنة 1921 م فى أعقاب الثورة، والواقع أن توجههم الشعرى الجديد قد يكون منذ عام 1909 م، وهو التوجه الذى لايقف عند حد التغيير فى سياقات البنية الشعرية وأبنيتها أو حتى الروائية، ولكنه مال إلى الذاتية ومخاصمة الواقع والانعكاف فى كهف الأحلام والمشاعر وخطاب الطبيعة والجدل مع أسرار الوجود، وبدا ذلك بجلاء خلال الأعمال الشعرية، والروائية للمبدعين الثلاثة، ومنها رواية «سارة» للعقاد، و «إبراهيم الكاتب » و«خيوط العنكبوت» للمازني، ومجموعات شكرى الرمزية «نظرات فى النفس والحياة ». وتجاوزت هذه المدرسة عوالمها الشعرية والإبداعية إلى الولوج إلى عالم النقد برؤى جديدة تضع مراسيم لبنية القصيدة المعاصرة، ومحاولة الخروج عن الأطر التقليدية القديمة والبالية، وكذلك جماعة «أبوللو» التى أسسها أحمد زكى أبو شادى «وهو واحد من شهود ثورة 1919» ورفاقه صالح جودت وإبراهيم ناجى وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل والهمشرى وكامل كيلانى، وجاءت لتنقل لنا أصداء الوحى الغربى فى تحريك أمواج الشعر المعاصر نحو ضفاف الرومانتيكية الجديدة بأصدائها الملتحفة بالوحى الشعورى المباشر، والرامز فى كثير من الأحيان . ثم تأتى أعمال نجيب محفوظ والممثلة فى ثلاثيته لتعبر كل الآفاق، وترصد بوعى وبلغة فنية جديدة واقع الحياة الاجتماعية فى مصر. إن الأثر المباشر لثورة 1919 فى تغيير وجه الحياة السياسية والاجتماعية فى مصر، وأثر ذلك على حركة الإبداع فى حاجة إلى أن يوضع تحت المجهر البحثى لاعتبار مهم ألا وهو أن ما ترتب عليها من نهضة أدبية وفكرية فى مصر تجلت بوضوح بداية من منتصف القرن العشرين وما بعده، كانت الحركات الثورية سببًا من أسباب تفرده وتميزه وتناميه. د. بهاء حسب الله أستاذ الأدب العربى - بجامعة حلوان