أثار خبر حظر دخول دبلوماسى روسي، كان ضمن وفد بلاده، التشيك للمشاركة فى اجتماعات اللجنة الحكومية المشتركة للتعاون بين البلدين ردود افعال تباينت بين الاحتجاج العنيف من جانب روسيا، والانتقاد اللاذع من جانب الرئيس التشيكى ميلوش زيمان الذى اعتبر الواقعة «استفزازا غبيا» يضر بمصالح بلاده بالدرجة الاولي. ولم يمض من الزمن سوى أيام قلائل حتى عاد لوبومير ميتار وزير دفاع التشيك ليعلن أن روسيا تتصدر، بعد الإرهاب ومحاولات الاختراق الإلكترونية، قائمة أكبر الاخطار التى تهدد «الناتو» . هذه التصريحات وغيرها تعيدنا إلى الكثير من سنوات الماضى القريب الذى طالما شهد انضواء التشيك، التى كانت موحدة مع سلوفاكيا تحت راية ما كان يسمى «المعسكر الاشتراكى» أو بلدان «شرق اوروبا» و«حلف وارسو» الذى اعلنت موسكو تشكيله فى عام 1955 ردا على تأسيس حلف الناتو فى عام 1949. وكانت تشيكوسلوفاكيا أعلنت فى عام 1989 خروجها من تحالفاتها القديمة مع الاتحاد السوفيتى قبل انهياره فى عام 1991 مع اندلاع ما سمى «الثورة المخملية» التى قادها الكاتب المسرحى فاتسلاف هافيل فى «انقلاب هادئ» جاء مواكبا لحركات مماثلة سرعان ما شملت كل بلدان المعسكر الاشتراكى وهو ما اعتمدته موسكو بإعلانها حل «حلف وارسو» فى صيف عام 1991. ومنذ ذلك التاريخ جنحت علاقات البلدين نحو التهدئة بعيدا عن التصعيد، رغم اتساع مساحات الخلافات السياسية التى زاد من حدتها انضمام كل هذه البلدان إلى حلف الناتو، وإن تباينت علاقات كل من بلدان شرق اوروبا مع موسكو، بقدر اختلاف سياسات الأحزاب الحاكمة هناك، وإذا كانت بولندا تبدو بوصفها الدولة الأكثر حدة فى موقفها المعادى لروسيا وقيادتها السياسية، على عكس المجر التى تميل إلى التقارب مع موسكو وزعيمها فلاديمير بوتين، فإن التشيك تتخذ موقفا وسطا، وإن تباينت أصوات رموزها بين المؤيد والمعارض. ومن هنا جاء حادث حظر دخول الدبلوماسى الروسي، ضمن الوفد الحكومى الزائر براغ، للمشاركة فى اجتماعات اللجنة المشتركة للتعاون بين البلدين «لأسباب أمنية»، حسب التفسيرات التشيكية، ليلقى بالمزيد من الزيت فى آتون المعسكر المناهض للتقارب مع موسكو، وهو ما أثار غضب وانتقاد الرئيس التشيكى زيمان الأكثر ميلا للتقارب مع الرئيس بوتين. وفى هذا الصدد، قال زيمان أن ما حدث مع الدبلوماسى الروسى «استفزاز شديد الغباء لا يمكن أن يخدم مصالح البلاد، وهو ما كاد يدفع الوفد الروسى إلى العودة إلى بلاده». ومضى زيمان ليقول: «هناك فى جمهورية التشيك اشخاص لا مهمة لهم سوى تدبير الاستفزازات السخيفة، وهو ما يدفعنا إلى محاولة استيضاح هوية من الذى يلحق الأضرار بعلاقات البلدين، ومن يبذل الجهود الرامية إلى دعم وتطوير العلاقات الاقتصادية مع مثل هذه الدولة المهمة». وقد سارعت ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية إلى الاحتجاج، وكشفت عن احتمالات الرد بالمثل، فى الوقت نفسه الذى طالبت فيه الاوساط البرلمانية فى موسكو بضرورة «أن يكون الرد من جنس العمل». ورغما عن ذلك، فقد حرص الرسميون من الجانبين على تجاوز اللحظة والتفرغ لما يمكن أن يصب فى قنوات دعم التعاون وتطويره، وهو ما تمثل فى مباحثات دينيس مانتوروف وزير التجارة والصناعة الروسية مع الجانب التشيكى، التى أسفرت عن نتائج ايجابية، حسب المصادر الرسمية. وتشير الأرقام المعلنة إلى اطراد متزايد فى حجم التبادل التجارى بين البلدين الذى عاد وارتفع، رغم العقوبات المفروضة ضد روسيا منذ اندلاع الأزمة الاوكرانية فى عام 2014، من زهاء 6 مليارات دولار فى عام 2016، حتى 8٫4 مليار دولار فى عام 2017، وذاد حتى 9٫8 مليار دولار بنسبة 15% فى عام 2018، اى صعود صوب المستوى السابق الذى كان قد بلغ 14 مليار دولار قبل رضوخ التشيك لقرارات الاتحاد الأوروبى وانسحاب عدد من كبريات الشركات التشيكية من السوق الروسية فى عام 2014. وكانت مارتا نوفاكوفا وزيرة التجارة التشيكية قد سبق وكشفت عن تأييد بلادها مشروع بناء أنابيب الغاز «التيار الشمالى-2» (نورد ستريم -2)، برغم الضغوط التى تتواصل من جانب الولاياتالمتحدة على بلدان الاتحاد الاوروبى لإثنائها عن المشاركة فى المشروع. وإذا أضفنا الى ذلك مواقف رئيس الجمهورية ميلوش زيمان المؤيدة ضرورة الحفاظ على التقارب مع روسيا، وما أدلى به من تصريحات أيد فيها انضمام القرم إلى روسيا، وهو ما يدفع الكثيرين فى التشيك وخارجها إلى اتهامه بموالاة روسيا وزعامتها السياسية، فضلا عن موقف رئيس الحكومة اندريه بابيش الذى وصف رفض الحوار مع روسيا بأنه موقف خاطئ، واعتبار ذلك بمنزلة العودة الى «حرب شبه باردة» مع روسيا، فإننا نكون أمام «لحظات فارقة»، فى مسار العلاقات بين البلدين، وإن تعالت أصوات الصقور من النافذين فى حكومة التشيك، ومنهم وزير الدفاع لوبومير ميتار، ووزير الخارجية توماش بيترشيتشيك الذى سبق وانحاز إلى موقف زميله القائل أن روسيا تشكل تهديدا لامن بلدان الاتحاد الاوروبي. ومن هنا يؤكد المراقبون فى موسكو وبراغ، على حد السواء، أن العلاقات الروسية التشيكية تظل فى مجملها أقرب إلى الايجابية، لا تنال منها ضغوط العقوبات و«صغائر» رجال السياسة، حسب تقديرات العقلاء من الجانبين. وفى هذا الصدد، يتوقف هؤلاء عند نجاح البلدين فى الالتفاف حول الحصار والضغوط الأمريكية انطلاقا من تعزيز التعاون على المستوى الثنائى الادنى، أى من خلال الأقاليم الروسية، ومنها جمهورية تتارستان وقطاعات اوليانوف ونيجنى نوفجورود وسفيردلوفسك ، فى مجالات بناء الماكينات وتكنولوجيا المعلومات والزراعة والطب والتعليم والسياحة وغيرها من مجالات البنية التحتية. ولعل ذلك تحديدا يمكن أن يكون تفسيرا لتسامى السلطات الرسمية فى البلدين فوق ما وصفه رئيس جمهورية التشيك «الاستفزازات شديدة الغباء»، وإعلاء مصالح البلدين صوب توسيع دائرة الحوار مع شركاء الامس القريب بعيدا عن أحزان التاريخ.