فتحى المر لعب بعقل البنت عطيات الطويل مثل الشباب الذين يلعبون بالعين والحاجب، فعمل البحر طحينة، أوقعها اللعين، ودخل بها بدون أوراق ولا مستندات، ولا أختام أميرية، وتمتم على الخبر تماما. الشاب الحويط بعد ما فعل فعلته صار يتهرب من البنت، يعطيها الموعد بعد الموعد فيخلفه. تنتظره على ناصية الشارع فيحضر من زقاق خلفى، حتى ظنته سرابا. الورشة ذاتها التى شهدت أول لقاء بينهما صارت مواربة الأبواب، وهى تنزل من بيتها، كى تذهب إلى معمل الحلويات، فتشتغل فى صناعة المشبك بلا نفس. لاحظت تحية أمها تعكيرا فى مزاجها، وعزوفا عن تناول الطعام، وهى التى كانت تحضر من شغلها، وقبل أن تستوى على كنبة الصالة تصيح فى أمها بروح مرحة: ماذا طبخت لنا اليوم يا توحة؟ تذهب إلى المطبخ لتكشف الحلل، تمسك بملعقة، وتذوق الحساء والخضر، وتنتش قطعة لحم على السريع. من حوالى شهرين صارت منكسرة، عازفة عن تناول طعامها، تدخل لتنام قبل موعدها، فتغطى جسدها كله بعد أن كانت عادتها أن تظهر جانب وجهها ليكون فى النور. تسأل الأم نفسها: ماذا حدث للبنت الغلبانة المسكينة التى مات أبوها مصدورا منذ خمسة أعوام، فاستدانوا حق غسله، وكفنه، وخروجه. زنقتها فى الحجرة الداخلية المجاورة للمسقط، وصممت على معرفة السبب الذى غير أحوالها. البنت تنظر نحوها شاردة، ثم تنخرط فى البكاء. أرسلت مرسالا لخال البنت كى يشاركها حل المشكلة، ولا غرابة فالخال والد. ضغطت الأم تحية، وضغط الخال عوض، وكان خلفهم الثلاثة الباب مغلقا، وربنا أمر بالستر. رفضت البنت أن تبوح بكلمة، تركتهما يتخبطان فى ظنونهما، وجرت نحو الحمام، سكبت الجاز على ملابسها، وحين أشعلت عود الكبريت انطفأ بفعل الريح البحرى القادم من الشباك، فأدركت الأم أن فى الأمر مصيبة. جرتها من شعرها، جزت على أسنانها: قولى لخالك عمن ضحك عليك، وإلا سأقتلك؟ لطم الخال صدغيه، زغر فى شقيقته: لا تفترى على البنت. أتصل إلى هذه الدرجة؟ الدنيا لسه بخير. اعترفت عطيات بما فعله فتحى المر حين أغواها، واستغل ضعفها كى يعاشرها. لم تكن لها خبرة فى هذه الأمور، فرضخت لطلبه، وظنت الأمر سهلا. كان من الضرورى التعامل مع المصيبة بهدوء، وبدون ضجة. أخرج عوض وهو يعمل نجار باب وشباك أربعمائة جنيه، وتفاوض مع مجرمين عاتيين مدربين على مثل هذه الأمور على إحضار الجانى بهدوء وبلا شوشرة. لو حاول التملص فقلم على الوجه كفيل بإخراسه. مجرمان تابا عن الحرام، وراحا يعملان فى الحلال: الأول أسمر، طويل عريض، بدون صف أسنان علوى، والثانى أبيض البشرة، قصير، ينط الشر من عينيه، وفى رقبته حز سكين قديم. أحضراه من ورشته بالحيلة، حملاه مقيدا فى عربة نصف نقل، وقفت أمام الباب، وصعدا به وهو يصرخ: الحكومة ستؤدبكما، ولن أعترف بشيء. لطمه الخال حالما حط قدميه فى الصالة، ولم يفكا قيده أبدا. كان المأذون يتململ فى جلسته، وهو يعدل الجبة والقفطان، يبسمل و يحوقل، وينظر نحوه بعداء حتى ينتهى من مهمته، وهو يهرش رأسه: يا عالم كل شيء بالخناق إلا الزواج فبالتراضى. جار وحيد كان بمثابة الأب للبنت التى لم تكف عن البكاء هو خليل قشطة. سألها بإيجاز: هو الذى عملها معك؟ هزت رأسها بالإيجاب، فصفعه الخال، وأدمى فمه، نطق والصفعة قد تركت علامة حمراء على الصدغ: لن أوقع على قائمة منقولات. قال الخال: تغور القائمة. البنت ستعقد قرانك عليها. صرخت تحية، وهى تمسك بخناقه: أبدا، بناتنا ليست رخيصات. سيوقع على القائمة، ورجله فوق رقبته. تدخل الجار: المهم هو توقيعه على القسائم، اصبرى يا أم عطيات. طلب المأذون بطاقتى العريس والعروس. مدت الأم يدها ببطاقة البنت، وكانت جاهزة عند الطلب، أما فتحى المر فقد أنكر وجود البطاقة من أصله. فتشوه فوجدوها مخفية فى جوربه. طلعوها، وهو يرفس، ناشده الخال أن يتصرف برجولة فجعر بحنجرته، عندها صفعه الأسمر الطويل العريض، قال له وهو يقسم بتنفيذ وعيده: لو رفضت سأقطع «....................» بكى فتحى المر بكاء مريرا، وطلب منهم التريث، وإحضار أمه وأبيه: لو سمحتم، يا جماعة.. الزواج إشهار. عندها لكزه أبيض البشرة القصير بإصبعه التى تشبه البريمة فى صدره حتى إن فتحى تألم، وأنّ أنينا موجعا: عندما أغويتها، هل طلبت حضور أمك أو أبيك. أسقط فى يده، فكوا الحبل من معصمه الأيمن، وقعت البنت ووقع فتحى المر، وبصم كل منهما. ووقع الشاهدان: الخال والجار. طلع صوت فتحى بصعوبة: فكوا قيودى.أرجوكم.أنا زيكم ابن ناس. كانت يده اليمنى فقط هى التى سمح بفك قيدها فيما بقيت يده اليسرى مقيدة، وقدماه مشدودان بمنتهى الإحكام. تلا المأذون الخطبة، ودعا العروسين للتحلى بالأخلاق الحسنة، فالزواج مودة وسكن. ولول فتحى معترضا: لا يوجد عندى سكن! نهره الأسمر، الطويل العريض: اخرس. ولطمه أبيض البشرة، القصير: لك عين تتكلم؟! طلب المأذون رسوم عقد القران فمد الخال يده بمائة جنيه، وهى التى كانت بجيب سترة فتحى المر. ولما كان الجار خليل قشطة بمثابة الأب فقد دفع مائة جنيه أخرى، وتبقى حوالى أربعمائة جنيه، لأن الحكومة رفعت الرسوم رفقا بالمواطنين البسطاء حتى لا يكررون غلطة الزواج. لم يكن مع الأم إلا جنيهات معدودة، فعاودت البكاء. أسقط فى أيدى الجميع. نغز الأسمر، الطويل العريض زميله آمرا: طلع أتعابك. ألا تفعل شيئا لوجه الله؟ وضع أبيض البشرة، القصير وجهه فى الأرض، تمتم قائلا: الحال واقف يا معلمى. وبعد تفكير: على العموم، نحن أولاد بلد جدعان. أخرج الرجل الأول مائتى جنيه، وأخرج الرجل الثانى مثلهما. ولما طبق المأذون يده على المبلغ، أقسم بالله أنه تنازل عن مائتى جنيه إكراما لسيدنا الحسين، حفيد النبى. وضع دفاتره فى حقيبته، ولم تكن هناك حلوى ولا ملبس. قال وهو على وشك الانصراف: زواج ميمون إن شاء الله. قال الجار الطيب: أجلس مع عروسك يا فتحى. وقال للبنت التى كانت فى غاية الإحراج: أنت ابنة حلال. ضعى زوجك فى عينيك. زغردت الأم زغرودة منكسرة. لكن الخال أمرها أن تزغرد بعلو صوتها، فالحق يعلو ولا يعلى عليه. قال الرجل الأول، وهو يجلس نافضا يديه من المهمة: أسقونا شربات. نبل ريقنا الذى نشف. وأمن الرجل الثانى على كلامه: أو اعملى لنا شاى يا أم العروسة. فتح باب الشقة، وصعدت نظرات البنت حتى استقرت على وجه فتحي: أنا معى أسورة، ممكن نبيعها، ونقضى أسبوعا فى عشة برأس البر. غضب فتحى وانتفض: أنت زوجة رجل. العشة سأدفع إيجارها كاملا. بعد أسبوع واحد علقت المناديل وأضيئت الأنوار، وجلجل صوت محمد رشدى فى الميكروفون المعلق على بيت العروس: « قولوا لمأذون البلد.. ييجى يتمم فرحتى». لكنه كان قد جاء وتمم كل شىء. وربك حليم ستار.