من الطبيعى أن تشغلنا اللغة وما يتصل بها من أسئلة وإجابات فى هذا العصر الذى خرجنا فيه من الحال التى كنا فيها طوال العصور التى مضت إلى ما نحن فيه الآن. نحن كنا إلى عهد قريب ولاية أو مستعمرة تابعة للإمبراطوريات الدينية والدنيوية التى عرفتها المنطقة وعرفها العالم خلال العصور الماضية من القرن السادس قبل الميلاد إلى أواسط القرن الماضى، من إمبراطورية قمبيز إلى إمبراطورية الإسكندر، ومن اليونان إلى الرومان، ومن هؤلاء إلى البيزنطيين، ومن البيزنطيين إلى العرب، ومن العرب إلى المماليك والترك والإنجليز. وهذه ليست مجرد أسماء نذكرها فى دقيقة أو اثنتين، ولكنها غزوات، وحروب، وصراعات، وانقلابات، وهجرات، وتحولات حدثت فى ألفين وخمسمائة عام تغير فيها كل شىء فى حياتنا.. عقائدنا، وعاداتنا، ولغتنا، وأزياؤنا حتى وقفنا على أبواب العصور الحديثة نسأل أنفسنا: من نحن؟ مسلمون ومسيحيون؟ عثمانيون؟ مصريون؟ فراعنة؟ عرب؟ بل نحن لا نزال نطرح على أنفسنا هذا السؤال حتى الآن. وإذا كنا حتى اليوم نسأل عن هويتنا، فمن الطبيعى أن نسأل حتى اليوم عن لغتنا: الفصحى أم العامية؟ هذا السؤال لم يكن مطروحا على اللغة وحدها وإنما المقصود منه أن نحدد هويتنا، فالمرء بأصغريه: قلبه ولسانه، وأن نعرف من نكون لنسير فى الطريق الذى يتفق مع شخصيتنا ويحملنا إلى أهدافنا. ولأن العامية هى اللغة التى نتكلمها جميعا ونتخاطب فى حياتنا العملية، ولأن خصوصية اللسان المصرى وما فيها من إيقاعات وإشارات ظاهرة فيها أكثر مما هى ظاهرة فى الفصحى التى تتكلمها معنا بقية الشعوب العربية كان انحياز بعضنا للعامية، ودعوتهم للاكتفاء بها واتخاذها لغة كلام وكتابة. ولأن الفصحى من الناحية الأخرى هى لغة القرآن الكريم والشعائر الدينية كان انحياز البعض الآخر لها وحلمهم الذى يراودهم بأن تكون هى لغة الكلام والمخاطبة، إضافة إلى كونها لغة الكتابة والقراءة. ولأن العامية واقع والفصحى واقع آخر يتصادم الواقعان ويتصارعان ولا يستطيع أى منهما أن يزيح الآخر من طريقه وإن استطاع أن يوقفه ويمنعه من أن ينمو ويتقدم، ليس اليوم، بل منذ اليوم الذى دخلت فيه العربية البلاد المفتوحة وجرت على ألسنة الناس بلهجاتها المختلفة التى اتصلت وانفصلت وأصبحت فى النهاية لهجتين تتصارعان ويفرض هذا الصراع نفسه على اللغويين والمثقفين عامة فيخوضون فيه ويتحدثون عنه وينقسمون حوله، فمنهم أو أكثرهم ينحاز للفصحى، وبعضهم يدافع عن العامية. ولا يزال هذا الحديث متصلا حتى وصلنا إلى العصر الحاضر الذى أصبح فيه الصراع بين العامية والفصحى قضية الجميع دون أن ينتهى إلى نتيجة ودون أن يكسب منه أحد، وإنما الطرفان خاسران. العامية محرومة من الثقافة الرفيعة مرتبطة بالشارع، والفصحى محرومة من الحياة فى الشارع مرتبطة بالمسجد وحده. والسؤال: هل هو وضع طبيعى هذا الوضع الذى تقف فيه العامية والفصحى كل منهما فى وجه الأخرى؟ والجواب: لا، ليس طبيعيا، فالذى يصل هذه بتلك أكثر جدا من الذى يفصل بينهما. وهذا ليس مجرد انطباع، وإنما هو الحقيقة الموضوعية التى امتحنها اللغويون القدماء وأثبتوها فى مؤلفاتهم. ونحن نرى أن الفريقين المتخاصمين لا يستطيعان أن يصبرا على هذا الخصام طويلا أو يكونا وفيين له. أنصار الفصحى يمارسون معظم نشاطهم اليومى بالعامية. وأنصار العامية يمارسون معظم نشاطهم الثقافى والإدارى بالفصحى. ومع هذا يظل الصراع دائرا مشتعلا. أنصار الفصحى يظنون أن العامية كانت فصحى ودب إليها الفساد على ألسنة العوام الأميين. وأنصار العامية يظنون أن الفصحى كانت عامية، أى كانت لغة حياة يومية، لكنها طردت من على الشفاه وسجنها العلماء والفقهاء فى ماضيها البعيد. وهذه كلها تخيلات لا سند لها. فاختلاف العامية عن الفصحى ليس فسادا أصاب الفصحى، وإنما هو سمات خاصة تميزت لها اللهجات القديمة وظلت حية على ألسنة أصحابها أبناء القبائل العربية الذين دخلوا مصر وغيرها من البلاد ونشروا لغتهم فيها. أما الفصحى فهى لغة حديثة نسبيا مستخرجة من هذه اللهجات القديمة التى ألف بينها اللغويون وحددوا معجمها واستنبطوا قواعدها اعتمادا على النصوص التى تمثلت فيها اللهجات التى فرضت نفسها وأصبحت لغة جامعة نظم بها الشعراء القدماء قصائدهم ونزل بها القرآن الكريم. لكن هذه اللغة المثقفة الجامعة التى تبنتها قريش لم تقض على اللهجات الأخرى التى ظلت حية على ألسنة العامة نتهمها بالفساد وهى فى معظمها لغة صحيحة وعربية أبا عن جد. فإن كانت فيها عناصر من لغات أخرى دخلتها، فهذا حدث أيضا للفصحى. ومن الذى كان يظن أن الكلمات والعبارات العامية التى قدمها لنا محمود تيمور فى حديثه عن مشكلات اللغة كلمات وعبارات فصيحة؟ أنا تشككت حين قرأتها أول مرة وأسرعت إلى المعاجم أبحث عنها ففوجئت بأنها فصيحة بالفعل وأن عاميتها ليست إلا ميزة مضافة إلى فصاحتها. والأستاذ تيمور يقدم لنا نماذج من هذه العامية الفصيحة منها هذا الحوار الذى يدور بين امرأة وزوجها.. تقول له: يا مدعوق.. يا موكوس.. يابايخ.. يا خباص.. يا مسخوط.. خصلتك وحشة.. وكلامك كلام عيال.. وانت مالك؟ إيش حشرك؟ ما لعقلك؟ دائما تحب تلُكّْ! فيجيبها الرجل: اسكتى يا حرمة.. زهقتينى.. طلّعتِ روحى.. سديتِ نفسى.. يا حفيظ! كلامك ينشف الريق.. انجرّى من قدامى لا ألعن لك أسلافك.. كفاية.. هُسّ! بس! وأعود فى النهاية إلى ما بدأت به وألخصه فى كلمات، فأقول إن فهمنا الصحيح لقضية اللغة وتوفيقنا بين عاميتها وفصحاها يساعدنا على فهم أنفسنا وعلى تفسير ما نقف أمامه فى تاريخنا متسائلين. لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى