هناك طرق متعددة إلى السيدة زينب. أحبها إلى نفسى طريق كنت أسلكه وأنا طالب فى السنة الأولى من الدراسة الجامعية. كنت أعبر شارع محمد على من المغربلين إلى الحلمية الجديدة، فميدان السيدة، فأستقل ألباص رقم 12 إلى جامعة القاهرة. ولم أعد أذكر من الحلمية الجديدة التى كانت حيا جميلا له سحر خاص إلا معالم قليلة. منها فيللات ذات حدائق ونوافير؛ ومنها أيضا وبصفة خاصة مكتبة لتجارة الكتب المستعملة. وكانت المكتبة التى أعنيها تقع فى الحلمية الجديدة إلى اليسار من الشارع الرئيسى قبل الوصول إلى ميدان السيدة بقليل. ومن المؤكد دون بحث أنها لم يعد لها وجود. ولكنى عثرت فيها على كنز أدبى ثمين: مجلد بالانجليزية كان هو المجلد الوحيد المتبقى من عدة مجلدات لا يحضرنى عنوانها، ولكنها كانت بمنزلة خزانة لنماذج من روائع الأدب العالمى. ولقد نسيت معظم محتويات الخزانة بعد أن التهمتها جميعا. ولكن كان من بينها مقتطف بهرنى فور قراءته، وظل يلح على طوال السنين، فقرأت أصله كاملا بالانجليزية والفرنسية أكثر من مرة، ولم يهدأ لى بال حتى ترجمته إلى العربية. وأنا أعنى بذلك كتاب ابن أخى رامو لدنيس ديدرو. وديدرو فيلسوف من أعلام الأدب الفرنسى فى القرن الثامن عشر، وكان معاصرا لفولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم من رواد حركة التنوير والممهدين للثورة الفرنسية. وكان هو المحرر الرئيسى لدائرة المعارف المشهورة. والشخصان المشار إليهما فى العنوان هما الموسيقار الفرنسى جان- فيليب رامو (القرن الثامن عشر)، وابن أخوه جان فرانسوا رامو. وكان هذا الأخير عازفا للكمان والكلافسان، ومدرسا للموسيقى والغناء، ومؤلفا موسيقيا مغمورا لا يقارن على الإطلاق بعمه العظيم. ويروى أن ابن الأخ هذا تعرض لاضطهاد أبيه وعمه، وأنه قبض عليه أكثرمن مرة، وأنه حبس فى ملجأ لشذاذ الآفاق حيث قضى السنوات الأخيرة من حياته. ومن المؤكد تاريخيا أن ديدرو التقى هذا الصعلوك مرة واحدة، ولسنا نعلم ما دار بين الرجلين من حديث، ولكن هذا اللقاء كان نواة مجرد نواة أو بذرة صغيرة لعمل عظيم من أعمال الخيال والإبداع. عمل فريد لا ينتمى إلى أى نوع أدبى معروف، بل يأتى على شكل حوار بين «أنا» أو الفيلسوف كما يسميه ديدرو وهو أى ابن الأخ جان فرانسوا رامو، وهو حوار مطول، وسجال حافل بالمفاجآت وعناصر التشويق ومشاهد التمثيل والدراما. ومن الملاحظ بصفة خاصة أن ديدرو المؤلف يركز على الصعلوك، ويسلط عليه الأضواء، ويعطيه الأولوية على حساب الفيلسوف (أو لنقل مع شيء من التبسيط على حساب نفسه). بل ان بعض النقاد يشبه دور الصعلوك بدور سقراط الذى كان يدعى أمام محاوريه أنه لا يعلم شيئا، ولكنه يطرح عليهم من الأسئلة ما يستخلص به المعارف والمعلومات الكامنة فى نفوسهم. وهو تفسير يشجع عليه ديدرو فى بعض عباراته. فمثل هؤلاء الأشخاص فيما يرى ديدرو يختلفون تماما عن غيرهم، ويخرجون عن التجانس الممل الناتج عن التربية والأعراف الاجتماعية وقواعد اللياقة السائدة. فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ ينبغى أن نلاحظ أولا أن تشبيه الصعلوك بسقراط لا يمكن أن يؤخذ على علاته. فهو جزء أو عنصر واحد فى شخصية مركبة كما ينبه ديدرو منذ البداية. فابن الأخ كما يقول شخص مركب من الرفعة والوضاعة، من الحس السليم ومخالفة المعقول. وهو قادر على تمثيل (لعب) أدوار شتى ما كان رفيعا منها مثل عزف الآلات الموسيقية أو الغناء بإتقان، أو وضيعا مثل مشاهد النفاق والتملق، وإذلال النفس طلبا للمنفعة، والركوع عند أقدام الأقوياء، وإغواء الفتيات وإقناعهن بالانحراف عن طريق الاستقامة. وهو مجيد ورائع فى أداء كل من الدورين فى تلك العملية المفسدة: دور القواد ودور الفتاة البريئة وهى فى طريقها إلى الوقوع فى المصيدة. فلا غرو أنه بكل تلك المعدات الفنية الفذة يخطف الأضواء من الفيلسوف الوقور بحيث يبدو باهتا بالمقارنة. وهو يثير إعجاب هذا الأخير ويبهره، ويثير إعجاب جمهور المقهى الذى اتخذ منه ديدرو مسرحا لذلك الحوار، كما يبهر قراء الكتاب حتى يومنا هذا. ولم يكن الصعلوك فى غفلة عن أنه هو الغالب فى تلك المباراة. فهو الذى يبدأ الجولة الأولى عندما يأخذ زمام المبادرة ويتقدم من الفيلسوف؛ وهو الذى يختتم الجولة الأخيرة بلهجة المنتصر المزهو بانتصاره. فهو يقول: يضحك كثيرا من يضحك أخيرا. فكيف سمح ديدرو لهذا الأفاق بأن يحتل مركز الصدارة؟ الواقع أن الصعلوك لم يتغلب إلا على شخصية الفيلسوف كما رسمت فى الكتاب. ولكنه لم يتغلب على ديدرو المؤلف. فالحقيقة عكس ذلك. وهى أن المؤلف رأى أن يضحى بتلك الشخصية، لكى يكون له هو الفنان المبدع النصر الأخير، والضحك الكثير. فلئن كان أداء الصعلوك ساطعا ورائعا، فإن من حق ديدرو الفنان أن يزهو بأدائه فى إنجازعمله الأدبى، وهو العمل الأروع والأبقى. لقد انتهى دور الصعلوك عندما قال آخر عبارة له، أما الدور الذى أداه ديدرو فى تأليف الكتاب فهو عمل خالد على مر العصور. ويبدو أن ديدرو لم يكن غافلا عن أنه داخل فى مباراة مع الصعلوك، وأن كليهما كان يؤدى، أو يلعب، دورا، وأن عليه (أى ديدرو) أن يحرز هدف النصر الحاسم. وليس من قبيل المصادفة أن المباراة تجرى فى مقهى للعبة الشطرنج، وهى لعبة تتطلب من لاعبها بعد النظر، وحسن التخطيط، والقدرة على المراوغة والتمويه، والتضحية أحيانا بقطعة من أجل قطع آخرى أهم. كلا وليس من قبيل المصادفة أن ديدرو يعطى الانطباع فى بداية الكتاب بأنه «يلعب». فهو على حد تعبيره من يراه الناس جالسا على مقعد فى حديقة عامة وهو يحلم يقظان وتدور بينه وبين نفسه أحاديث كيفما اتفق، ويطلق العنان لعقله فى حرية كاملة، ويلاحق كل واردة وشاردة من الخواطر؛ ويشبه نفسه بالشباب الباريسى المنحل، فهو يطارد إحداهن ثم يتركها إلى غيرها، ويتصدى لهن جميعا دون أن يستقر على أى منهن. فأفكاره فيما يقول ديدرو هن بغاياه. لمزيد من مقالات عبد الرشيد محمودى