أجواء من الريبة وانعدام الثقة تبدو جلية فى علاقات البلدين، والتى تتسع باضطراد خاصة فى مقاربتهما للقضيتين السورية والكردية، فأنقرة عبثا حاولت إحداث كسر فى التحالف الأمريكى الاستراتيجى مع الأكراد السوريين ، إلا أن جهودها باءت جميعها بالفشل ، وواشنطن وهى الأقوى لا يمكن أن تضحى بالأموال الطائلة التى أنفقتها ومعها أرسلت 2000 من جنودها لوأد ما تبقى من الداعشيين. ولضمان عدم عودتهم فلا مناص من استمرار الدعم لقوات سوريا الديمقراطية وأذرعتها، والذى سيمتد لفترة من الزمن لن تكون بالقصيرة وقد لا ينتهى وتلك هى معضلة الرئيس رجب طيب أردوغان وأركان حكمه الذين يرتعبون من ميلاد نتوء انفصالى إرهاصاته باتت ماثلة للعيان يجزئ أرضهم ومدشنا كيانا حاربوا عقودا طويلة، ومازالوا، كى لا يرى النور أبدا. ولم يعد خفيا أن الانفراج النسبى الذى طرأ على الحليفين المتباعدين عقب الإفراج عن القس أندرو برانسون سرعان ما خبا وهجه، بيد أن المشكلات بينهما آخذة فى التزايد، أما عن عبارات المجاملات والثناء التى سمعت أخيرا فلا تعدو عن كونها لغة دبلوماسية تلوك بها ألسنة الساسة ظاهريا بين الحين والآخر فى كلتا الدولتين بيد أن ما تضمره النفوس هو النقيض تماما. وها هى أزمة جديدة تضاف إلى سلسلة الأزمات المتراكمة بينهما إذ اعتبر وزير الدفاع خلوصى أكار قرار البيت الأبيض بنصب نقاط مراقبة شمال سوريا سيزيد الوضع تعقيدا، وفى نبرة لا تخلو من تحذير ووعيد وكلاهما ينحصر فى الكلام فقط، استطرد قائلا إن قوات بلاده ستتخذ التدابير اللازمة لصد أى تهديد قد يأتى من خارج الحدود، فى إشارة إلى الميليشيات الكردية المدعومة أمريكيا والمنعوتة هنا فى الأناضول بالإرهابية، ولفت إلى أن أنقرة سبق وعبرت مرارا عن انزعاجها من تلك المسألة، وأبلغت واشنطن بذلك، وبالطبع لم يشر أكار إلى أن الأخيرة ضربت تحذيرات حكومته المتواصلة عرض الحائط ومن ثم فما قاله سيلحق بسابقاتها ولن يجد له صدى يذكر فيما وراء الأطلسي. وبدوره أعطى زميله وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو مهلة زمنية للولايات المتحدة حتى نهاية العام الحالى لتطبيق خارطة الطريق المتعلقة بمنبج السورية والتى تم التوافق بشأنها منذ ستة شهور، وإلا فالعواقب وخيمة وقال أوغلو فى تصريحات لشبكة «سى إن إن تورك» إن تحقيق هذا المطلب سوف يفضى إلى إخراج وحدات حماية الشعب الكردية التى تعتبرها حكومته امتدادا لمنظمة حزب العمال الكردستانى الانفصالية من المدن الواقعة هناك. تلك المواقف المتشددة على صعيد الخطاب المعلن ، بدت وكأنها رد على تصريحات وزير الدفاع الأمريكى جيم ماتيس وفيها أشار إلى أن بلاده ستقيم نقاط مراقبة على امتداد الحدود الشمالية لسوريا لتجنب التوتر الذى قد يقع بين تركيا وأكراد سوريا شركاء التحالف الدولى المُناهض لتنظيم داعش وأوضح أنّ الهدف هو التأكد من أن قوات سوريا الديمقراطية »لن تنسحب من المعركة ضد تنظيم داعش«، ماتيس لم يكتف بقوله إن مراكز المراقبة هذه «ستكون مواقع ظاهرة بوضوح ليلا ونهارا ليعرف الأتراك أين هم بالضبط»، فلا مجال للخطأ واستهداف حلفائها، بل تعمد لفت الأنظار إلى أن هذا القرار اتخذ «بالتعاون الوثيق مع تركيا». الطريف أن الميديا الأردوغانية التى هبت تنفى بشدة ما وصفته بمزاعم ماتيس راحت تذكر بتواطؤ الولاياتالمتحدة فى محاولة الانقلاب الفاشلة قبل عامين ونصف العام تقريبا دون أن تكون هناك مناسبة، الأدهى من ذلك أن أنقرة الرسمية التى أصيبت بحرج بالغ أمام القوميين الذين تستميلهم استعدادا لماراثون الانتخابات المحلية نهاية مارس المقبل تجنبت التعليق تاركة الأمر لأبواقها الاعلامية. وكنوع من توزيع الأدوار شن وزير الداخلية سليمان صويلو، هجوما لاذعا ضد واشنطن التى حوّلت الحدود السورية العراقية إلى ما سماه «مختبرا للإرهاب» حيث فيه تعقد صفقات مع الإرهابيين حول تقاسم النفط من الآبار الواقعة بتلك المناطق وفى لهجة تهديد واضحة، أكد أن «تركيا الجديدة لم تعد هى نفسها التى كانت فى السابق، ومن يصفها بأنها تركيا القديمة فليعلم بأنه حتما مخطئ». لكن العبارات الحماسية هذه لم تمنع من انزلاق جديد لتركيا الجديدة فى مستنقع الازمة السورية ومدخلاتها، فأصابع الاتهام صوبت سريعا باتجاهها وذلك عقب تعرض حلب لقصف بقنابل كلور من قبل تيارات جهادية محسوبة عليها. ولأن ما سوف تسوقه من مبررات لن يجد آذانا صاغية فى الكرملين الذى اشتاط غضبا، اضطرت مجبرة إلى ادانتها بل القبول باستخدام القوة ضدها وهذا ما حدث بالفعل فقد احيطت علما بحملة قصف جوى شنتها المقاتلات الروسية على مواقع المسلحين الذين تدعمهم تمويلا وتسليحا خاصة جبهة النصرة التى هى الوجه الآخر لتنظيم القاعدة الارهابى فى منطقة ادلب. وفيما يبدو انه تدارك خوفا من التصعيد أعلنت وزارة الدفاع التركية الأحد الماضى أن وزيرها خلوصى أكار تحادث هاتفيا مع نظيره الروسى سيرجى شويجو بشأن الوضع بإدلب لعل وعسى يهدئ من مخاوف جار لا يستهان به.