لعل ما دفعنى إلى كتابة هذه المقالات الرغبة فى تعريف المثقف الحقيقى والمثقف الزائف، وهو أمر قد يغضب الكثيرين من مدعى الثقافة الذين يعتقدون أنهم بالفعل مثقفون بعد أن أطلق عليهم أصدقاؤهم وانصارهم من باب المجاملة أو النفاق أو المصلحة لو كان مدعو الثقافة هؤلاء لديهم السطوة والمكانة. وكنت أود أن اذكر بعضهم باسمائهم، ولكنى ترددت، لأن هذا قد يستغرق صفحات كثيرة، ولكن نستطيع أن نقول أيضا: معظم من يكتبون فى الصحف يعربون عن ضحالة ما لديهم من معرفة خاصة عندما يقحمون أنفسهم فيما لا يعرفون. هناك فرق بين المثقف والمتعلم، وليس من الصواب أن نطلق أو نصف كل من درسوا فى المدارس والجامعات، وتخرجوا فيها بالمثقفين، ولكن نطلق عليهم إذا كان تعليمهم على درجة كبيرة من الجودة، وهذا من النادر ذلك لأن التعليم أصلا عندما يحتاج إلى الاقتلاع من جذوره واستنبات تعليم آخر يحتاج إلى إرادة حقيقية من كل القائمين عليه وتغذيته بالمال اللازم مهما كان قدره، ومهما نقول ونعيد فإن بناء البيوت والمدن فقط لا تبنى إنسانا، وأن بناء الإنسان هو البداية، ولا يتحقق هذا البناء إلا عن طريق الثقافة والفن، والفرق بين الفرد فى مجتمع ما وبين الفرد فى مجتمع آخر من ناحية التقدم فى أغلب المجالات العلمية والحضارية هو مدى ما فى مجتمع هذا الفرد من ثقافة ترفع من شأن تفكيره ومعايشته للحياة من حوله وتطور الفرد ورقيه إنما يفرض على المجتمع نظما جديدة من الحياة الثقافية، خاصة الفن، ولذلك نجد أن الفن السينمائى الأمريكى يمختلف عن معظم الفنون السينمائية فى البلدان الأخري، وكذلك بالنسبة للرواية والمسرحية والفنون التشكيلية، وهناك من يقول إننا لدينا نجيب محفوظ فى فن الرواية، فأقول له إن نجيب محفوظ حالة خاصة فى المجتمع المصري. وإذا كان لدينا نجيب محفوظ واحد، فإن فى أمريكا وإنجلترا وفرنسا وسائر الدول الأوروبية عشرات الأدباء الذين يتساوون مع نجيب محفوظ، وقد يفوقونه. ومن مظاهر الزيف الثقافى عندما نجد الذين يحصلون على درجة البكالوريوس فى الطب البشرى وطب الأسنان وبكالوريوس العلاج الطبيعى والطب البيطرى ثم لا يمارس بعضهم المهنة، ويمارس مهنة أخري، ولكنه يصر على الاحتفاظ بلقب دكتور لإيهام الناس بأنهم حاصلون على درجة الدكتوراة، وكذلك بالنسبة للحاصلين على الشهادات المتوسطة فى التجارة أو الزراعة أو الصنايع، ويتعاملون مع الناس على أنهم محاسبون أو مهندسون أو مهندسون زراعيون ميكانيكيون. لم يحاول أحد من مدعى الثقافة أن يحدثنا عنها، بل إن من يكتبون بشكل منتظم فى الصحف كل يوم أو فى الاسبوع مرة، انما يكتبون عن موضوعات وأحداث تافهة، وقليل منهم من يحاول أن يكتب عن شيء يثير اهتمام القارئ أو يضيف إلى معرفته فى السياسة أو التاريخ أو الأدب أو الفنون. كلمة ثقافة cuIture مشتقة من الكلمة اللاتينية culture، وهذه مشتقة من كلمة colere وهى تعنى كلمة «يزرع» وهو اصطلاح متعدد المعانى حتى إنه فى عام 1952 قدم ألفريد كروبر وكلايد كلاشون قائمة تحتوى على 164 تعريفا لكلمة ثقافة فى كتابهما «الثقافة عرض نقدى للمفاهيم والتعريفات». فى أول ظهور لهذا المفهوم فى القرن الثامن عشر، وفى القرن التاسع عشر فى أوروبا كان يشير إلى عملية الزرع أو التحسين فى مجال الزراعة أو فلاحة البساتين، وكانت فى القرن التاسع عشر على وجه الخصوص تحسين أحوال الفرد، والارتقاء بذوقه خاصة من خلال التربية، ثم ما لبثت أن اتجهت إلى تحقيق التطلع القومى للمثاليات، وفى منتصف القرن التاسع عشر استخدم بعض العلماء اصطلاح الثقافة للإشارة إلى القدرة الإنسانية العالية، فإن جورج سيرل عالم الاجتماع اللاوضعى كانت الثقافة تعى بالنسبة له تنشئة الفرد من خلال مساعدة أشكال خارجية تم اختيارها على مجرى التاريخ. وبعد أن كانت الثقافة تعنى الزراعة أو الاستنباط، وأن المثقف هو الزارع أو الذى يقوم بفلاحة الأرض cultvataur أو من يكره الفلاحين ليعملوا عنده فى الأرض أو بمعنى العبادة أو التعبد cult تطورت الكلمة، وأصبحت تعنى الجانب الفكرى من الحضارة أو مجموع العادات والانجازات عند الشعوب. يقول الشاعر الإيرلندى العظيم وليم بتلر يتس: بدون الثقافة والقدسية، وهى دائما هبة من الله للقليلين، فقد يتخلى الإنسان عن الثروة أو أى شيء خارجي. «الثقافة» فى معناها اللغوى يقصد بها الفهم والإدراك والخدمة والمهارة والتطلع والذكاء والاعتقاد، أى انها ذات طابع معنوى بالدرجة الأولي، بحيث أن هناك رغبات داخلية هى التى تجعل الإنسان ينساق وراء الاكتشاف والاستجابة للطبيعة عبر قيامه بعدة سلوكيات وممارسات ومعتقدات ورموز ومعان وقيم تجعله يسمو ليعتنق كنه وجوده، ويؤسس إرثه الثقافى والاجتماعى (منير برقاد مجلة الرافد) ويرى ليفى شيراوس عالم الانثروبولوجيا الشهير أن الانثروبولوجيا الثقافية قد قامت بدراسة اللغة «كنظام رمزى وكعلامة مميزة جوهرية للثقافة البشرية من حيث أننا نستطيع أن ندرك ما هو إنسانى فينا انطلاقا من فعل التواصل، والشيء الجوهرى الذى تركز عليه الانثروبولوجيا الثقافية، هو أنها تنظر إلى الثقافات باعتبارها شيئا متغيرا ونسبيا. ونحن نجد فى التراث الإسلامى أن كلمة ثقافة هى كلمة عربية أصيلة، ولفظة قرآنية تعنى الفهم والخدمة والمهارة والفكر وأعمال العيش من كسب وبحث وعلوم وصنائع، ومن خلال هذه المقاربات التاريخية على مر العصور نجد أن هناك تشابها، واختلافا بين معانيها، حيث فى كل فترة عبر الزمن تضع لنفسها رؤية خاصة لمفهوم الثقافة. وعند إدوارد تايلور عالم الانثروبولوجيا الإنجليزى الثقافة هى ذلك الكل المركب الذى يحتوى على المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات والتقاليد وأى قدرات تكتسب بواسطة الإنسان باعتباره عضوا فى المجتمع، وحيث أنها تظل عاملا أساسيا، فإن الثقافة تحتوى على الأفكار التى تحدث التطور الاجتماعي، واعتبارها عنوانا اسميا نوعيا لكل المجتمع، وأنها تشكل القوى الفعلية التى تعمل على تأكيد كل ما هو إنسانى فى الحياة. لمزيد من مقالات مصطفى محرم