كنت أنوى أن أتحدث هذه المرة عن مصدرين فى منتهى الأهمية للثقافة ومشكلات كل منهما واقتراحاتى بالنسبة لهما، وهما الهيئة المصرية العامة للكتاب والمركز القومى للترجمة، ولكنى أحسست أن الحديث عن الموسيقى لم يكن كافيا. فالموسيقى كما قال الفيلسوف الألمانى شوبنهور إن إمكاناتها وقدراتها تدفعها فوق كل الفنون الأخري. كان يوم الجمعة فى أوائل فترة الستينيات من القرن الماضى هو يوم تعطش وبهجة حيث كنا نذهب كعشاق للموسيقى الكلاسيكية وأنا مازلت طالبا فى الجامعة فى نحو الساعة العاشرة صباحا إلى دار الأوبرا وذلك لوجود الأوركسترا السيمفونى الذى أنشأه الدكتور ثروت عكاشة أو أوركسترا قادم من الخارج لنستمتع بسماع عزف بعض عظماء الموسيقى الكلاسيكية. بل إن الدكتور ثروت عكاشة قام بدعوة الموسيقار الروسى العظيم آرم خاتش موريان حيث قام بقيادة الأوركسترا وعزف لنا بعض مؤلفاته الشهيرة، ومن بينها موسيقى باليه «جايانيه». كنا نشترى تذكرة حضور الحفلة الصباحية بستة قروش ويتكرر ليلا نفس البرنامج ولكن كان ثمن التذكرة عشرة جنيهات، ورغم ذلك كنت لاتجد مقعدا خاليا. جمال الموسيقى قائم بذاته والشكل والبناء الموسيقى هو المقياس الأوحد لها. هل حاول أحد المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية ولست أقول ناقدا فليس هناك نقاد للموسيقى على مستوى محترم يقوم بالتحليل مثلما كان يفعل الدكتور حسين فوزى والأستاذة رتيبة الحفنى والدكتورة سمحة الخولى يشرحون لنا التأثير الجمالى التى تتركه الموسيقى فى النفس البشرية. والثقافة الموسيقية شبه منعدمة عندنا فى مصر وليس هناك محاولة بالنهوض بها. قد لايعرف الكثير من المثقفين أن عصا المايسترو لها تاريخ. ففى ثلاثينيات القرن التاسع عشر شاع استخدام العصا فى القيادة ولقيت ترحيبا من الجميع. أصر المايسترو شور على استعماله عصا القيادة رغم هلع جمهور لندن عندما شاهده يخرج العصا العاجية الصغيرة من جيبه. وكان قائدا الأوركسترا ڤيبر وسبونتينى هما أول قائدين محدثين لأوركسترا الأوبرا مثلما كان شور وهابانيك أول قائدين للموسيقى السيمفونية. استخدم شور العصا أول مرة فى أوركسترا الأوبرا، وابتكر مراحل التدريب التى مازالت شائعة فى المسرح الغنائى وهى تعتمد على عمل بروڤات بمصاحبة البيانو للمغنين المنفردين والكورس وبروڤات منفصلة للأوركسترا ثم يلتقى الجميع فى البروڤات النهائية بملابس المسرح. وكان قائدا الأوركسترا فيبر وسبونتينى متشددين تماما على المسرح ولا يقتنعان فقط بالحصول على أفضل ما يمكن من أداء وكان كل منهما يقوم بدراسة المدونة والنص وقدرات المغنين المنفردين والإخراج المسرحى وتفاصيل الاكسسوار إلى أن يشعرا بالاطمئنان إلى اتساق كل شئ وتوافقه. وقد ذكر الموسيقار العظيم فاجنر أنه عرف الطريق إلى بيتهوفن من خلال حفلات هابانيك. ونلاحظ بالنسبة لعروض الأوبرات فى مصر أنها تكاد تكون مقتصرة على أوبرا « عايدة » للموسيقار الايطالى فيردى والانشغال دائما بالبحث عن المكان المناسب لعرضها، فإما عند الأهرام وإما بالقرب من معبد الكرنك، وذلك لأن أحداثها مصرية كتبها عالم الآثار ومدير المتحف المصرى مريت باشا. فى حين أن هناك أوبرات أخرى كثيرة وربما قيمتها الفنية أكبر من أوبرا عايدة حيث هناك أعمال روسينى وبوتشينى والفرنسى بيزيه صاحب أوبرا «كارمن» أما الباليه فلم نر تقريبا من الباليهات الكلاسيكية سوى «بحيرة البجعة» لتشايكوفسكى رغم أن له «الجمال النائم» و «كسارة البندق» وبموت راقص الباليه المصرى عبد المنعم كامل ورئيس دار الأوبرا مات الاهتمام بهذا الفن الراقي. ومن أهم ما يقال هذه المرة ما كتبه الدكتور محمد أبو الغار فى يوم الثلاثاء 28 أغسطس فى جريدة «المصرى اليوم» عن السوبرانو المصرية فاطمة سعيد وأنها سوف تقوم بالغناء فى الفيلا الأثرية لرئيس ألمانيا فى مدينة بون وذلك مع الباريتون الألمانى رومان تريكل وسوف تحضر الحفل ميركل مستشارة ألمانيا ويحضر أيضا ماكرون ورئيس وزرائه. وقد اختاروا فاطمة سعيد لأنها النجمة الصاعدة فى الأوبرا العالمية والمتوقع أن تصبح السوبرانو الأولى فى العالم. وقد يكون هذا الحدث مفخرة لنا جميعا كمصريين، ولكن الغريب أن فاطمة سعيد لم تتخرج من الكونسيرفاتوار فى مصر، فبعد أن حصلت على الثانوية العامة فقط سافرت إلى ألمانيا ودخلت معهدا شهيرا فى برلين حيث تدربت فيه على الغناء تحت اشراف أستاذها رينات فالتين إلى أن حصلت على البكالوريوس فى الغناء الأوبرالى ثم حصلت على الماجستير ومنحة دراسية فى أوبرا لاسكالا فى ميالانو وهى الأوبرا التاريخية التى غنى على خشبتها عظماء الغناء الأوبرالي، وأبدعت فاطمة فى الخارج دون أن يعلم أحد هنا ودون أن يدعوها أحد هنا لتكون السوبرانو فى إحدى الأوبرات العالمية برغم أنها كما يقول الدكتور أبوالغار تغنى حول العالم فى عدد من البلاد الأوروبية والأمريكية والعربية. فلم لم تفكر فاطمة سعيد فى الدراسة فى كونسيرفاتوار مصر. لم يتخرج من هذا المعهد عازف عالمى سوى رمزى يسى ولم نسمع عن عازف عالمى آخر أو حتى ما يستروا أو مؤلف موسيقى فماالسبب ياتري. هناك فى الأفق البعيد بدأت رحلتى باحثا فى خريطة العالم عن أسرار الثقافات ومعانيها والترحال عبر أبوابها بحثا عن الإنسان والوطن. كانت فنون مصر التراثية هى مصدر إلهامى وفخرى أن أكون مصريا.. حملتنى عبر أصواتها وألحانها وأنغامها فى عالم أوسع أفقا ورحابة، بدأت محطتى الأولى عام 1990 فى الغوص فى أعماق شخصية مصر التراثية بحثا فى حواريها وشوارعها ،واقاليمها المختارة عن تفردها وعبقريتها التى ظهرت من خلال رصدى كل أشكال الفنون التراثية التى تزخر بها مصر. ثم اتسعت الرؤى باكتشافى أن تفرد الشخصية المصرية تبرز عنده التلاقى مع ثقافات العالم المختلفة، ومن هنا بدأت رحلة الحوار عبر الأزمنة والثقافات والحضارات للوصول إلى فضاء إنسانى كونى يحقق لبعض الحوار والتواصل بين كل الشعوب. قائل هذه الكلمات هو المخرج انتصار عبدالفتاح مؤسس ورئيس المهرجان الدولى للطبول والفنون التراثية ومؤسس حوار فنون ثقافات الشعوب. ولقد دعانى هذا الفنان إلى حضور حفل من حفلات فرقته الرائعة فاستطاع بعزف دفوفه أن يطرد ما بقى فى داخلى من أدران موسيقية، وتطلعت إلى المزيد وقد زادت دهشتى أن فى مصر هذا النوع من موسيقى الدفوف بشكل راق يحتاج إليه المرء أكثر مما يحتاجه من حفلات موسيقية لأعمال سينمائية متكررة. لماذا لا ترعى الدكتورة الوزيرة هذه الفرقةوتكثر من حفلاتها وأنا أؤكدا لها أن تأثير فرقة الطبول والدفوف هذه سوف يكون لها التأثير القوى الفعال فى التخلص من موسيقى الهبوط والابتزال. لمزيد من مقالات مصطفى محرم