لم يأخذ المصريون من حكومات الموظفين القادمين من بيروقراطية الدولة إلا ازدياد المشاكل وتفاقمها علي مدي عقود, فلا بقيت لديهم زراعة ولا هم بنوا صناعة, ولا حافظوا علي اقتصادهم القديم ونهضوا, ولا دخلوا عصر الاقتصاد الجديد القائم علي إنتاج المعرفة وليس فقط علي إنتاج السلع والخدمات التي صار الكثير منها أثرا بعد عين. فقد أصبحنا نعتمد علي الصين في كثير من السلع, وعلي تركيا وبلاد أخري غيرهما. وتدهورت الخدمات الأساسية وفي مقدمتها التعليم الذي لم يعد مجرد خدمة بل رافعة للنمو والازدهار الاقتصادي في عالم اليوم, وكذلك الصحة, حيث صار المصريون من أكثر شعوب العالم معاناة من الأمراض وباتت الأورام السرطانية والفيروسات الكبدية تنهش أجسادهم بشكل متزايد يوما بعد يوم. حدث هذا كله, وأكثر منه, في ظل حكومات الموظفين القادمين من بيروقراطية الدولة بدواوينها ودولابها الحكومي وجامعاتها, والتي يطلق عليها من باب التجميل حكومات تكنوقراط. فلا يجوز الحديث عن وزير تكنوقراطي ما لم تكن لديه رؤية وخيال تمتزج فيهما المعرفة النظرية والتخصص التقني والخبرة العلمية بالتجربة السياسية التي لا بديل عنها لإدراك طبيعة المشاكل كما هي في الواقع المعيش وليس فقط علي الورق. وقد كان مفهوما تشكيل حكومات موظفين خلال العقود الماضية حين كان الشارع في مصر خارج المعادلة السياسية, وكانت السلطة فوقية تسلطية مفروضة علي الناس من أعلي ومعزولة عنهم وغير معنية بهم ولا تخشي عقابهم إذا أخطأت في حقهم أو فشلت في حل مشاكلهم أو عجزت عن القيام بمهماتها. أما وقد أصبح الشارع في قلب المعادلة السياسية بعد ثورة25 يناير, وصار الناس قادرين علي تقييم الحاكم وسلطته ومراقبة أداء الحكومة ومحاسبتها ومساءلتها, فيبدو تشكيل الحكومة الجديدة عجيبا وباعثا علي التساؤل عن نتيجة استمرار الاعتماد علي موظفين وترقيتهم إلي درجة وزراء. فالسمة الغالبة في حكومة د. هشام قنديل, بل السائدة فيها, هي أنها حكومة موظفين تمثل إعادة إنتاج لحكومة د. كمال الجنزوري وحكومات ما قبل ثورة25 يناير. فقد ترقي د. قنديل كبير موظفي هذه الحكومة في ديوان وزارة الري بعد أن عمل في معهد بحوث المياه التابع لها حتي صار مديرا لمكتب وزيرها وعمل في الخارج لبعض الوقت قبل أن يعود ويختاره عصام شرف( عقب ترقيته في مارس2011 من وزير سابق إلي رئيس وزراء) وزيرا للري. وهذا هو حال معظم وزراء الحكومة الجديدة بأشكال مختلفة. خذ مثلا وزير الكهرباء المهندس محمود بلبع الذي تدرج وظيفيا في وزارته وعمل مديرا لإدارة ورئيسا لقطاع ثم لقطاعات وصولا إلي رئاسة الشركة القابضة للكهرباء قبل ترقيته ليصبح وزيرا مطالبا بحل أزمة الكهرباء التي تتحمل هذه الشركة المسئولية المباشرة عن تفاقمها. فكأننا أتينا بالمسئول المباشر عن أزمة الكهرباء بدلا من المسئول غير المباشر! وهناك مثال ثان ذو دلالة مهمة أيضا وهو ترقية د. أشرف العربي وزيرا للتخطيط والتعاون الدولي, وهو الذي عمل موظفا فيها وكانت آخر ترقية له عام2006 عندما عين رئيسا للمكتب الفني لوزيرها. ولذلك لم يكن مفاجئا حين أفصح ضمنيا عن أنه لا يملك أية رؤية, حيث أعلن أنه سينفذ خطة الوزيرة السابقة فايزة أبو النجا, وكأن لسان حاله يقول إنه لا جديد تحت الشمس وأن( أحمد مثل الحاج أحمد), مادام كلاهما موظفين قادمين من الخلفية نفسها. وينطبق ذلك في صورة أخري علي وزير الصحة الجديد د. مصطفي حامد القادم من كلية طب قصر العيني وبيروقراطية الوزارة في آن معا, حيث كان يعمل رئيسا لأمانة المراكز الطبية المتخصصة التابعة لها في عهد الوزير الأسبق حاتم الجبلي وضمن من أطلق عليهم قيادات الجبلي الذين أبعدوا من الوزارة العام الماضي بعد تنظيم وقفات احتجاجية للمطالبة بإقالتهم. أما وزير الري الجديد د. محمد بهاء الدين فقد تدرج في وظائف هذه الوزارة وصولا إلي درجة وكيل أول حتي إحالته علي التقاعد عام.2007 ولكنه لم يطق مفارقة الوظيفة الحكومية التي لم تستغن عنه أيضا حيث أسند إليه منصب منسق مشروع الخطة القومية للموارد المائية والري منذ بلوغه سن المعاش وحتي ترقيته وزيرا. ومن هذا النوع أيضا أسامة كمال وزير البترول, وأبو زيد محمد وزير التموين, ود. صلاح عبد المؤمن وزير الزراعة. وثمة نوع آخر من الوزراء في الحكومة الجديدة انتقلوا من العمل في شركات خاصة إلي بيروقراطية الدولة التي لم يتدرجوا فيها طويلا بل هبطوا علي المستوي القيادي فيها. ومن هؤلاء علي سبيل المثال هشام زعزوع وزير السياحة, الذي عمل في شركات خاصة, قبل أن يجد طريقه إلي وزارة السياحة ويعين معاونا لوزيرها عام2007 ثم مساعدا أول له في العام التالي, قبل ترقيته وزيرا في الحكومة الجديدة. وهناك هاني محمود وزير الاتصالات الذي عمل ضمن بيروقراطية شركة فودافون مصر ثم شركة فودافون تركيا, قبل أن يعين رئيسا للهيئة القومية للبريد في ظل حكومة عصام شرف, ثم وزيرا في الحكومة الجديدة. وتضم الحكومة, إلي ذلك, وزيرين كانا محافظين هما عبد القوي خليفة وأحمد زكي عابدين, وعددا من الوزراء القادمين من البيروقراطية الجامعية مثل د. إبراهيم غنيم وزير التعليم, و د. رشاد المتيني وزير النقل, بالإضافة إلي اثنين من وزراء جماعة الإخوان المسلمين الخمسة( د. طارق وفيق وزير الإسكان, و د. مصطفي مسعد وزير التعليم العالي). وهما لم يظهرا في أي عمل سياسي, بخلاف الثلاثة الآخرين وهم أسامة ياسين الأمين العام المساعد لحزب الحرية والعدالة وخالد الأزهري القيادي العمالي وصلاح عبد المقصود الصحفي النقابي. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد