الانشغال بحال ومستقبل الصحافة الورقية وفى القلب منها الصحافة القومية فى مصر لا يعبر فقط عن الأزمة التى تعانيها، تلك الصحف، ولكنه وذلك هو الأهم يعبر عن أهمية تلك الصحف سواء للعاملين بها أو للدولة بكل مؤسساتها. ومع ذلك فإن الانشغال بحال ومستقبل الصحافة كمهنة وخدمة يبدو خافتا مقارنة بالانشغال بحال ومستقبل الصحف نفسها. والحقيقة أن الصحف ليست أكثر من مجرد الوسيط الذى يحمل المنتج الصحفى إلى القراء. والأهم من ذلك أن كل الحديث الدائر عن الصحافة الورقية والتحديات التى تواجهها والخلاف فى الرأى حول ما تبقى من عمرها ليس حديثا عن العطب الرئيسى الذى يواجه العمل الصحفي. ومن ثم فإن السؤال الذى يجب أن يشغلنا جميعا هو مستقبل العمل الصحفى وليس الوسيط سواء كان ورقيا أو الكترونيا، وهل يمكن لتحويل كل الصحف الصادرة فى مصر إلى صحف إليكترونية أن يكون الحل السحرى لمشكلاتها المالية؟. فالمصدر الرئيسى للمشكلة المالية للصحف الورقية ليس فقط فى تكلفة الورق ومستلزمات الطباعة ولكن فى الحقيقة هو تكلفة مستلزمات إنتاج العمل الصحفى خاصة فى شقه المتعلق بالموارد البشرية وتتضح تلك المشكلة بجلاء فى الصحف القومية المتخمة بعدد من العاملين لأسباب نعلمها جميعا. وهو الأمر الذى لا يتعامل معه من قريب أو بعيد تحويل تلك الصحف مثلا إلى صحافة إليكترونية، بل إن ذلك التحول سيعنى بالضرورة تراجعا لحصيلة الإعلانات التى تمثل المصدر الأساسى لدخل كل الصحف. وهنا نصل إلى النقطة المحورية والأهم وهى هل العمل الصحفى سلعة أم خدمة؟ فتسليع الصحافة مسئول عن الكثير من المشكلات والهجوم الذى تتعرض له. فكيف للصحافة والإعلام عامة أن يقدما خدمة تهدف إلى ترقية الوعى والحس الوطنى وترسيخ قيم كثيرة فى المجتمع فى مقدمتها الولاء والانتماء والاصطفاف جنبا إلى جنب مع مؤسسات الدولة للحفاظ على كيان الدولة فى ظل الحرب الشرسة التى تتعرض لها منذ ثورة 30 يونيو، بينما مطلوب منهما فى الوقت نفسه أن يحققا ربحا بمعايير السوق. عدم حسم تلك النقطة أدى إلى تحكم الإعلان فى العمل الإعلامى فصار التشوه الذى نعانيه على شاشات التليفزيون. وصار التشكيك والهمز واللمز على المؤسسات الإعلامية القومية خاصة التليفزيون المصرى والصحف القومية. ونجح المتربصون بتلك المؤسسات فى تسييد التساؤل عن جدوى الإبقاء على تلك المؤسسات بينما يحقق معظمها خسائر واضحة، وكأنها أنشئت بالأساس بهدف تحقيق الأرباح! وفى هذا الإطار لابد من الاعتراف بأن تسليع الصحافة والإعلام عامة هو المسئول الأول عن كثير من المشكلات التى تعانيها المهنة والتى رصد معظمها تقرير المجلس الأعلى للإعلام مؤخرا. حيث أشار التقرير إلى أن نحو خمس المخالفات التى رصدها فى متابعته لعينة من الصحف على مدى الأشهر الثلاثة كانت متعلقة بخلط الإعلان بالمادة التحريرية. كما أن تسليع الصحافة هو المسئول عن انحراف بوصلة التقييم. فبدلا من التركيز على الارتقاء بمستوى ما يقدم وجدواه فى تنوير الرأى العام صار الحديث الأهم هو عن نسب التوزيع فى الصحافة ونسب المشاهدة فى التليفزيون وفقط. وفيما يتعلق بنسب التوزيع وعلى الرغم من الأرقام الحقيقية بعيدا عن الانطباعات والأحكام السابقة التجهيز تعطى الأفضلية للصحف القومية وتشير إلى أنها لم تتراجع عما وصلت إليه منذ عام 2011 الذى شهدت فيه تراجعا حادا، فإن تراجع نسب قراء الصحف لا يتعلق وفقط بقيمة ما تقدمه الصحافة. ففى مجتمع لا يزيد معدل القراءة للمواطن فيه على ربع صفحة سنوية من كل الإنتاج المكتوب ولا يقرأ أكثر من 6 دقائق فى المتوسط سنويا يصعب تماما الحديث عن تفعيل نسب التوزيع، بل إن التركيز فى ذلك الجانب دون الاهتمام بالارتقاء بمن يقرأون باعتبارهم الكتلة الحرجة التى تقود أو على الأقل تؤثر على المجتمع وخياراته يؤكد فى الحقيقة أن المشكلة لن يحلها التخلى عن الصحف الورقية. فالمرض الأساسى هو ضعف معدل القراءة وشيوع قيم الثقافة الاستهلاكية والسطحية، وهو أمر لا تتحمل مسئوليته الصحافة وحدها. أما تقدير قيمة ما تقدمه الصحافة فإنه لا يمكن أن يقاس بمعايير الإعلانات ومردودها على صاحب السلعة المعلن عنها على سبيل المثال. وقبل عدة سنوات اقتربت من حملة إعلامية كان هدفها تسويق فكرة معينة لدى الرأى العام ومن أسف أن الحملة أسندت إلى قيادة إعلانية كبيرة وليس إلى قيادة إعلامية. وشملت تلك الحملة محاور عدة لتسويق الفكرة كان من بينها ضرورة وجود كتاب رأى من المقتنعين بالفكرة يطرحون الفكرة على القراء، وكان السؤال الأول والوحيد لقيادة الحملة كيف نقيس مردود تلك المقالات وأصر على تطبيق المعايير الإعلانية وكأنها إعلانات وليس محاولة لتغيير فكر الرأى العام وإقناعه بالفكرة المراد تبنيها، وهو ما أدى إلى إجهاض الفكرة. التعامل مع الصحف خاصة القومية من زاوية أنها مؤسسات مأزومة أو تواجه تحديات اقتصادية وفقط يغفل أمورا كثيرة أخرى لا تقل أهمية عن الوضع المالى لتلك المؤسسات لعل من أهمها أولا أنها تمثل مدرسة حقيقية لتخريج كل القائمين ليس فقط عن العمل الصحفى بل عن العمل الإعلامى برمته. وثانيا أن الحرب التى تواجهها مصر فى ظل الأجيال الجديدة من الحروب يتركز جزء كبير منها أو تستهدف عقل ووعى المصريين فيما يسمى الحرب الإعلامية، وأن الصحف والقنوات التليفزيونية القومية تمثل أو يجب أن تمثل رأس الحربة فى تلك المعركة. ومن ثم، فإن الاستثمار فى العمل الصحفى الجاد القادر على المواجهة والدفاع عن الدولة وتأمينها ضد الاختراقات الثقافية لا يقل أهمية بحال من الأحوال عن الاستثمار فى الجانب الأمني. وفى النهاية يظل كعب أخيل فى القضية هو المنتج وليس الوسيط الذى يحمله رغم أهميته. وفى تقديرى أن ذلك وغيره من تحديات تفرض على المجلس الأعلى للإعلام وهيئتى الصحافة والإعلام أن تتبنى مؤتمرا قوميا للإعلام يستهدف بلورة رؤية للتعامل مع تلك التحديات وتحديد بوصلة العمل. لمزيد من مقالات ◀ د. صبحى عسيلة