أكتب إليك حكايتى، وأتطلع إلى معرفة رأيك فيما أعانيه، فأنا مهندس فى السابعة والعشرين من عمرى، ارتبطت منذ الطفولة بابنة عمى، ولاحظ الجميع جاذبية فطرية غريبة جدا بيننا، إذ كنا نمزح فى براءة وتلقائية، ونقضى معا معظم ساعات النهار، ولا نفترق إلا عندما يحين موعد النوم، ولما وصلنا إلى المرحلة الإعدادية حرصت والدتها على عدم تركنا بمفردنا، فشاركتنا جلساتنا، وقد تفوقت طوال مراحل دراستى، والتحقت بكلية الهندسة، وتخرجت فيها بامتياز، أما ابنة عمى، فأخذت مسار التعليم الأزهرى، والتحقت بجامعته، واتخذتنى قدوة لها، فتفوقت هى الأخرى، ولا أستطيع أن أصف سعادتى عندما كنت أراها معجبة بى، ولا أنسى حفل تخرجى الذى أقامته لى العائلة، ولا كلمات الإطراء والثناء التى أسبغها علىّ الأهل والأصدقاء الذين وصفونى بالاستقامة والأمانة والذكاء، وهى الصفات التى لفتت نظر المدرسين والزملاء، وكثيرا ما حدّثونى عنها للتدليل على شخصيتى البريئة كما يقولون، وفى ذلك الحفل حضرت ابنة عمى ووالدتها، وهما فى منتهى الفرح والبهجة، وقد دعوت إلى الحفل عددا من الأصدقاء، منهم زميلة لى بالجامعة، وقدمتها إلى الحاضرين بقولى: « فلانة صاحبة الصوت الناعم والجميلة جدا»، فإذا بزوجة عمى تشتعل غيظا وحنقا من اهتمامى بها، برغم أننى تصرفت بشكل تلقائى، كما لاحظت علامات الدهشة والاستغراب على وجه ابنتها، وأحسست أنه كان الأفضل ألا أدعو زميلتى إلى الحفل، لكنى تصرفت بشكل عفوى، ولم يدر بخلدى أن أحدا سوف يفسر هذا الاهتمام على غير حقيقته. ولاحظت هذا الموقف، سيدة قريبة لزوجة عمى، وقعت خلافات بينها وبين زوجها، ولديها منه ولد وبنت، ووصلت الأمور بينهما إلى نقطة الصفر، ففاجأت الأسرة بطلبها الطلاق متنازلة عن جميع حقوقها، ولم يتحمل زوجها جبروتها فطلقها، وتزوج بسيدة أخرى من العائلة نفسها، ويبدو أنها انفصلت عنه طمعا فى الارتباط بآخر، إذ تزوجت فور انتهاء العدة عرفيا برجل أعمال متزوج، وتشتت ابنها وابنتها بين أبويهما، وعانيا الأمرين بسبب التفسخ العائلى، ولم يمض وقت طويل حتى عادت إلى أسرتها، وهى تشعر بالذل والهوان، ولاحقت مطلقها لإعادتها إلى عصمته بعد أن أكلتها الغيرة، وهى ترى والد ابنيها متزوجا من غيرها، وأن بيتها القديم أصبح محرما عليها دخوله، أو حتى مجرد الإقتراب منه، ولم تجد من يتعامل معها سوى زوجة عمى بعد أن أغلق الجميع أبوابهم فى وجهها حتى أهلها، لكنها لم تصن هذا الجميل، ففى حفل تخرجى الذى حضرته هذه السيدة بدعوة من زوجة عمى استغلت غيرتها من تقديمى زميلتى إلى الحاضرين ب «الجميلة صاحبة الصوت الناعم»، وأفهمتها أن ذلك يعنى أننى أحبها وسوف أتزوجها، وأن على ابنة عمى أن تنبذنى من حياتها لأننى لا أستحقها، ثم طلبت يدها لإبنها!، والغريب أن زوجة عمى انساقت إليها، ووافقت على الخطبة وعقد القران، واشتروا شقة لكى يتزوج العريس فيها، وكتبها باسم العروس إمعانا فى التقرب منها، حيث أنه لم يحصل على تعليم عال، وعمل فى أحد المصانع، وتعمد الخروج معها وحدهما بحجة أنها صارت زوجته، ولازمها طول الوقت، وربما يكون قد انفرد بها أكثر من مرة، إذ شاهدهما حراس «البلاج» فى أحد المصايف، وهما يحتضنان بعضهما فى الماء، فأخرجاهما إلى الشاطئ حرصا على الآداب العامة! أما أنا فقد وصلت حالتى النفسية إلى نقطة الصفر، وكلما استعدت المشهد لا أصدق تفسير أسرة عمى علاقتى بزميلتى على هذا النحو غير الصحيح، وانقيادها وراء تلك السيدة، وأوكلت أمرى إلى الله، ومضت أسابيع، ثم انتابت زوجة عمى أزمة صحية طارئة استدعت نقلها إلى المستشفى، وبعد فحصها تبين أنها مصابة بورم فى المخ، وأخضعوها لجلسات إشعاع، وظلت بالمستشفى عدة أسابيع، وأقام عمى بمفرده معظم الوقت، ويبدو أن زوجته خرجت من المستشفى بصحبة ابنتها فجأة ودون أن تخبره وعادت إلى المنزل، وعندما فتحت الباب وجدت قريبتها وأم خطيب ابنتها مع زوجها، وقد عقدت الدهشة لسانيهما، وبدا عليهما الإرتباك، ولم يجدا مبررا واحدا لوجودهما معا!، ولم تتمالك زوجة عمى أعصابها، فانهارت تماما، وعانت لحظات عصيبة، وبعد أن هدأت بعض الشئ أخذت ابنتها إلى الشقة التى ستتزوج فيها، وهما فى حالة غضب شديد، وحملتا كل المتعلقات، والهدايا التى قدمها ابن هذه السيدة لخطيبته التى طلبت الطلاق، وأصرت عليه، وكان ذلك قبل موعد الزفاف بأسبوعين، وبعد حجز القاعة التى كان من المقرر أن يقام بها العرس، ثم أعادت إليه الشقة التى سجلها باسمها لكى يكسب ودها! وجاءتنى زوجة عمى وابنتها، واعتذرتا لى بشدة عن سوء ظنهما بى، وقالتا إن تلك السيدة هى التى شجعتهما على البعد عنى، وأوغرت صدر ابنة عمى بأن ابنها هو الأنسب لها لأنه يحبها، ولست أنا الذى أحببت زميلتى، وأننى حتى لو تزوجتها، فسوف أنفصل عنها من أجل الجميلة ذات الصوت الناعم!، ووجدتنى أستعيد الماضى الجميل، والجاذبية الفطرية التى جمعتنى بإبنة عمى، فقبلت إعتذارهما، وفتحت قلبى من جديد لحبى الأول، وأعلنا خطبتنا، ومازلت كما أنا يحدونى التفاؤل، ولا أحمل ضغينة لأحد، كما أننى مسالم، وأعرف تماما أن كل شئ بقدر، ويدخل فى ذلك أننى تعرضت منذ عامين لمرض تسبب فى فقدى البصر بإحدى عينىّ، ولكن ذلك لم يؤثر على حياتى لأننى متفائل بطبعى، وبمجرد إذاعة خبر خطبتنا، إشتعلت النار مرة أخرى فى قلب تلك السيدة، وبحثت عن عروس لابنها، واستقر رأيها على إحدى الفتيات وتزوجها، ولم ينس ابنة عمى، فراح يطاردها، ويطالبها بالهدايا التى إشتراها لها قبل إنفصاله عنها، بل إنه يطاردنى أنا أيضا، قائلا لى إنه لا يرضى لى كرجل عنده نخوة أن أرى عروسى تلبس فساتين إشتراها لها عريس سابق، إذ ستظل الملابس تذكرها به طول حياتها، ووقعت حرب كلامية مازالت رحاها تدور بين أم ذلك الشاب، وزوجة عمى التى هددتها بأنها ستدخلها السجن لعلاقتها المريبة برجل الأعمال الذى قالت إنها تزوجته عرفيا بعد طلاقها من زوجها الأول لكى تتقاضى معاش والدها المتوفى، والتى أصبحت أمام خيارين، فإما أن تظهر عقد الزواج العرفى فتدخل السجن لعدم أحقيتها معاش والدها، وإما أن تنكر زواجها فتدخل السجن أيضا بحكم ممارسة العلاقة الجسدية مع رجل لا يحل لها. والحقيقة أن الصراع داخلى يشتد بمرور الوقت، وأخشى اتمام زواجى بابنة عمى، ثم أندم عليه، بعد أن تخلت عنى من أجل شخص آخر إرضاء لأمها التى اعتذرت لى عن موقفها منى بعد خيانة صديقتها لها مع عمى.. إننى برغم طبيعتى المتسامحة أشعر باضطراب شديد، ولا أدرى ماذا أفعل، فالحياة بالنسبة لى حقل تجارب، وأريد الاستقرار، فبماذا تنصحنى؟. ولكاتب هذه الرسالة أقول: صحيح أن الغيرة تشوش العقل، ولا تسمح بالتفكير السليم، وأنها تكبّر الأشياء الصغيرة، لكن موافقة زوجة عمك على زواج ابنتها من ابن صديقتها لم يكن غيرة، أو بسبب الموقف العابر الذى قدمت فيه زميلتك للحاضرين فى حفل تخرجك ب «صاحبة الصوت الناعم»، وإنما طمعا فى الشقة التى سجلها باسمها، والأثاث الفاخر الذى سيزودها به، والشبكة الثمينة التى من المؤكد أنه قدمها لها، ولم يفرق معها مؤهل دراسى، ولا حب، ولا غيره، وقد انساقت ابنة عمك وراء وهم العريس الثرى الذى أقنعتها أمها به، ولم تلق بالا ل «الجاذبية الفطرية» التى جمعتكما منذ الصغر، إذ أن علاقات الطفولة لا تصلح معيارا للزواج، فمشاعر الزوجين تجاه بعضهما تختلف تماما عن مشاعر الأخوة والصداقة والزمالة، وقد أفاضت إبنة عمك فى مشاعرها نحو خطيبها بالقبلات والأحضان على مرأى ومسمع من الجميع.. صحيح أنها كانت وقتها زوجته وفقا للشرع والقانون بعد عقد قرانهما، لكنه لم يدخل بها، وحتى لو كانا قد أتما زواجهما بالفعل، فإنه لا يليق أبدا أن يفعلا ذلك خارج منزلهما، وأمام أعين الناس. إن الجاذبية الطبيعية تكون بسلام الروح الذي ينبعث من الداخل، ومن يتمتع بهذه الحالة من التصالح الداخلي يكون جذابا بشكل لا يقاوم، على خلاف من يبدون فى قلق واضطراب عصبى، وأحسبك كذلك مما قلته عن نفسك وصفاتك، لكنى لا أراه فى ابنة عمك، وربما تكون أمها قد غيّرت طباعها، وتسيّرها كما تشاء، فتوافق على خطبتها لهذا، ثم تعيدها إليك، وقد يظهر لها فى الأفق صيد جديد فتتجه صوبه وهكذا، وهذا هو أخطر ما أراه فى زواجك منها. والمرأة ليست فى حاجة إلى جمال الشكل لكى تكون جذابة، فما يهم أكثر من الجسد الجذاب هو العقل الآسر، ولا علاقة للإغراء بالكمال الجسدي، فهو يرتبط بطريقة التصرف.. أيضا لا فضل لزواج الأقارب على زواج الأباعد، ولا لزواج الأباعد على زواج الأقارب، وعلى كل من الرجل والمرأة أن يختار شريك حياته وفق الصفات الخَلْقية والخُلُقية، ولو كان في زواج الأقارب ضرر لما أحلّه الله تعالى لرسوله، وأشار إليه إشارة صريحة بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ...» [الأحزاب: 50]، وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته، وزوّج ابنته فاطمة بابن عمه علي ابن أبي طالب، والأمر في النهاية يعود إلى طبيعة كل من المرأة والرجل، وفى حالتك فإنه يتوقف على مدى استعداد ابنة عمك للتخلص من أسر أمها، والإخلاص لك، فلتناقش الأمر معها بهدوء، فإن أيقنت حقيقة مرامى أمها، سوف تستقر وتهدأ نفسيا، وتستعيد الجاذبية الفطرية التى جمعتكما منذ الطفولة. إن أمها تفكر بعقل مادى، ولولا أنها ضبطت قريبتها مع زوجها بمفردهما داخل الشقة، ما تراجعت عن تزويج ابنتها بابن هذه السيدة، ولا أدرى أين عمك من هذا كله، وما هو سر ابتعاده فى مسألة مهمة تتعلق بزواج ابنته، سواء منك أو من غيرك، فهناك حلقة مفقودة ضمن حلقات كثيرة لم تشر إليها فى رسالتك، وعليك الآن وقبل اتمام الزواج أن تضع النقاط على الحروف مع ابنة عمك حتى تطول محبتكما إلى نهاية العمر، فلقد أثبتت دراسة أوروبية أن الرجل يفرز هرمونات تدفعه إلى زيادة التعلق بقريبته إذا كان يحبها، بل إن المرأة تسعى عادة لحب زوجها، والحفاظ عليه وعلى مشاعره، وهو ما لم تجد الدراسة مثيله فى زواج الأباعد، ويدفع ذلك المرأة في أوروبا إلى السعي للإيقاع بقريب لها في غرامها لعلمها بأنه لن يرى مثلها!، وبعيدا عن النتيجة الطريفة لهذه الدراسة، فإن الرجل المقترن بقريبته يكون أشد حرصا على مشاعرها، ويتبين ذلك من المثل القائل: «زوجتي هى لحمى ودمى»، وتتعدد الفوائد من زواج الأقارب، ومنها زيادة وتقوية العلاقات الإجتماعية، حيث يكون الزوج والزوجة سفيرين للربط بين العائلات المفككة والمتباعدة، ويكون منزلهما محطة للتزود بالحميمية والقرابة وصلة الرحم، ومنها أيضا ذوبان الفوارق بين الزوجين، إذ يقتربان من بعضهما، ولا يتخوف الزوج من زوجته من الناحية المادية، بل يصبح أكثر خوفا عليها، وأكثر تعلقا وإهتماما بها، ويتعب من تعبها، ويسعد بسعادتها، وكذلك الزوجة ترى فيه الإنسان الأكثر أمانا من غيره، وتكون أكثر إخلاصا له.. وأكدت دراسة أخرى حول زواج الأقارب فى الريف البريطانى أن المرأة المتزوجة من قريبها أكثر حميمية وإحساسا بالأمان عن غيرها، وهو ما يفسر غيرة البريطانيات فى المدن من نساء الريف اللواتى يحصلن على حميمية أكبر، وبعيدا عن الدراسات العلمية، فإننا ننظر إلى الفوائد الروحية والدينية التي تنبع من زواج الأقارب كصلة الرحم وتودد الأقارب وكثرة الزيارات التي أصبحت مقتصرة على الأعياد والأفراح والمآتم فقط! فالعلاقات بين الأقارب أصبحت شبه مندثرة فى مجتمعنا مع مشاغل الحياة وتباعد المساكن عن بعضها، ولاشك أن الزواج هو طوق النجاة لها، لاسيما عندما تربط الزوجين علاقة فطرية مثل علاقتك بابنة عمك، فادرس إتمام الإرتباط بها فى ضوء كل هذه المعطيات، ولتناقشا معا كل ما يتعلق بحياتكما المستقبلية للتوصل إلى فلسفة محددة لمسيرة حياتكما، وأسأل الله لك التوفيق والسداد.