لم تكن مصادفة أن تخرج مظاهرتان معاديتان فى مدينة هيوسن بولاية تكساس الأمريكية فى ظهيرة أحد أيام شهر مايو الماضى. كانت المظاهرة الأولى تندد بانتشار الاتجاهات الإسلامية فى الولاية، بينما جرت الثانية تحت شعار «إنقاذ المعرفة الإسلامية». وقد دعت للمظاهرتين مجموعتان من ملايين المجموعات الهائمة فى فضاء الفيسبوك، إحداهما يمينية تسمى «هارت أوف تكساس»، أى «قلب تكساس»، والأخرى إسلامية هى «يونايتد موسليمز أوف أمريكا» أى «مسلمو أمريكا المتحدون». ويزيد أتباع كل منهما على 250 ألف شخص عبر الفيسبوك. وكما كان متوقعا تبادل المتظاهرون الأمريكيون من أنصار كل فريق الصياح وشعارات العداء والكراهية. غير أن المفاجأة المذهلة التى لم يعرفها المتظاهرون الغاضبون أن المجموعتين تنتميان لجهة واحدة تسمى وكالة أبحاث الإنترنت، وهى كيان روسى لا علاقة له بتكساس ولا بمسلمى أمريكا. هذه الواقعة ليست سوى مثال بسيط للواقع الذى نعيشه الآن، وفيه تقدم وسائل التواصل الاجتماعى بيئة خصبة لخداع الجماهير وتغيير إدراكهم للواقع وتحريكهم كالدمى. ظهرت تلك الحقيقة المفجعة بوضوح تام خلال الإفادة التى قدمها محامون يمثلون الفيسبوك وتويتر وجوجل أمام الكونجرس الأمريكى الشهر الماضى، فى معرض تحرى ما يتردد عن تدخل روسيا فى انتخابات الرئاسة الأمريكية الماضية. فقد اكتشفت إدارة تويتر، أن أكثر من 2700 حساب لديها تتحكم فيه جهات روسية، ويُشتبه فى أن 36 ألف حساب منها تداول نحو مليون ونصف تغريدة تويتر حول الانتخابات الأمريكية، مجتذبة 288 مليون تعليق، خلال الأسابيع العشرة السابقة للتصويت. ويشتبه موقع جوجل فى أن وكلاء روس قاموا بتحميل أكثر من ألف فيديو على اليوتيوب حول قضايا اجتماعية خلافية لتأجيج الانقسام بين الأمريكيين. أما الفيسيوك فكشف، عن أن الكرملين وراء نشر مواد تداولها فى تلك الفترة 126 مليون أمريكى، أى أكثر من ثلث عدد الأمريكيين. وتدعونا هذه الملابسات والأرقام لتأمل التغيرات الهائلة فى نطاق وأسلوب عمل أجهزة المخابرات بسبب وسائل التواصل الاجتماعى. فمن المعروف مثلا أن الشائعات كانت دوما سلاحا فعالا لتحقيق انتصارات وكسر معنويات الخصوم أو إلحاق الهزائم العسكرية، وأبرز مثال على ذلك ما حدث فى الحرب العالمية الثانية عندما استعد جيش النازى الألمانى للقاء قوات الحلفاء على الأراضى الفرنسية، فقد أطلقت آلة مخابرات الحلفاء معلومة خاطئة تفيد بأن قواتهم سيتم إنزالها فى با دى كاليه، بينما تم الإنزال فعلا فى نورماندى، فكانت مفاجأة مربكة لهتلر وجيشه. كانت الشائعات والمناورات الخادعة تستهدف القادة العسكريين والزعماء لتضليلهم عن الحقيقة ودفعهم لاتخاذ قرارات خاطئة، ومميتة فى أحيان كثيرة، أما اليوم وبفضل الفيسبوك وتويتر وجوجل أصبح المواطن العادى هو المستهدف، وصارت الأوطان مباحة لجهات مجهولة ذات تأثير هائل، كما تدل تحقيقات التدخل الروسى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016. غير أن هذا ليس إلا جبلا جليديا عملاقا لم نر بعد سوى قمته، فالتطبيقات المستحدثة فى الذكاء الصناعى تفتح الآفاق نحو المزيد، فبالإمكان الآن تكوين صور وفيديوهات تبدو مطابقة تماما للواقع، وهو ما بشرت به دراسة حديثة لشركة «إنفيديا» لإنتاح شرائح الجرافيك، حيث نجحت فى خلق صور مطابقة للواقع للمشاهير لا يظن من يراها أنها مفبركة. ونجح الباحثون فى جامعتى واشنطن وستانفورد فى تحقيق تقدم مذهل باستخدامهم للتكنولوجيا فى خلق فيديوهات وتركيب صوت يتمشى تماما مع حركة الشفاه، بحيث يصعب الشك فى مصداقيتها. وهذا هو الواقع الافتراضى الذى جعل خداع الجماهير وتوجيههم واقعا حقيقيا أكثر سهولة وفاعلية من أى وقت مضى.