يصعب على من تابع المؤتمر الوطنى للشباب الذى عقد أخيراً فى مكتبة الإسكندرية أن يتجاهل ما حفلت به جلساته من مشاهدات وما أثاره من قضايا ولو بعدم إدراج بعضها فى برنامجه (وهذا بحد ذاته موقف) ربما نختلف حول قدر الإيجابى أوالسلبى فى المؤتمر لكن المؤكد أنه لم يخل من الجديد. هل نجح المؤتمر فى تحويل حركة النقاش إلى حالة حوار؟ هنا أحد أسئلة هذا المقال لأن النقاش لا يعنى الحوار بالضرورة. بالعموم يثير المؤتمر ثلاثة تساؤلات تتعلق بمنهجية عمله، والقضايا التى طرحها، والقرارات التى صدرت فى ختامه. وهى تمثل الجوانب الثلاثة لهذا المقال. فيما يتعلق أولاً بمنهجية عمل المؤتمر فإن أول ما تثيره هو الحضور الشبابى فيها. البعض يرى أن هذه المؤتمرات الشبابية تكشف عن محاولة بناء تنظيم شبابى يمثل ظهيراً لسلطة الحكم. مبدئياً التنظيمات المؤثرة والملهمة لا تنشأ بالضرورة بقرار لأنها نتيجة وليست مقدمة. لكن دعونا نعترف أن كل سلطة حكم فى مصر طالما تمنت وجود تنظيم شبابى مؤيد لها. وقد رأينا شيئاً من هذا فى السنوات الأخيرة لحكم الرئيس السابق مبارك (جمعية شباب المستقبل) لولا أن الفكرة فيما يبدو كانت محلاً للتردد ولم يُقدر لها أن تكتمل. أما التنظيم الشبابى فى عهد عبد الناصر فقد بدأ صريحاً وقوياً وممنهجاً تحت تسمية منظمة الشباب الاشتراكي. وسواء اتفقنا مع هذا التنظيم الشبابى الناصرى أو اختلفنا فالمؤكد أنه كان تنظيماً قائماً على أفكار ومعتقدات فكرية وسياسية وليس تنظيماً لمجرد التنظيم، ثم أنه جمع أفضل نخبة من الكفاءات آنذاك. من هنا السؤال هل تريد سلطة الحكم تنظيماً شبابياً بهدف التأييد والحشد لا أكثر أم تنظيماً يؤمن أعضاؤه عن حق بمجموعة من الأفكار والمعتقدات الفكرية والسياسية؟ ليس أمامنا حتى الآن صورة واضحة ومكتملة يمكن البناء عليها لتقديم إجابة. لكن إذا قلنا مؤقتاً إن مواجهة التطرف أساس مقنع لتنظيم شبابى فإن هذا لا يكفى بذاته لأن التجربة الحديثة علمتنا منذ ثورة يناير أنه لا يكفى لنجاح التحول أن نتفق على ما نرفضه بل أن نتفق على ما نريده. لهذا سيظل التساؤل مطروحاً ومطلوباً حول ماذا لدينا اليوم من قيم وأفكار ومعتقدات تصلح مشروعاً مقنعاً وملهماً لشبابنا كى لا يكون الأمر حشداً من أجل الحشد.هذا هو السؤال/الاختبار. ما سبق قوله لا ينفى أهمية ما رأيناه فى المؤتمر من مشاهد الاحتفاء بنماذج شبابية ناجحة. هذه رمزيات مطلوبة لا يتردد فى توظيفها كثير من رؤساء دول العالم، وهى مطلوبة أكثر فى المجتمع المصرى لكى يقتنع شبابٌ عصاميٌ مكافح أن هناك من يقدّر اجتهادهم ويكافئ عصاميتهم. لكن سيكون العائد أكبر وأعمق وأعظم لو اقترن الاحتفاء بهذا الشباب الناجح العصامى بنقاش مواز حول كيفية تجذير مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص فى منظومتنا التشريعية والإدارية وإعلائه فى ثقافتنا. وإلا فهل كانت الفتاة النجيبة مريم الأولى على الثانوية العامة لتقبل فى وظيفة قضائية برغم نبوغها لأن والدها المكافح يعمل حارساً لعقار؟ والواقع أن تحويل المؤتمر الشبابى إلى منصة شبابية قادرة على التأثير والإلهام هو أمر إيجابى ومطلوب. أؤمن دائماً أن البدايات المتواضعة الصادقة القابلة للتنفيذ هى أفضل ما يجب البدء به. ولو أن الجهات المعنيّة فى الدولة عكفت على إعداد مشروع مدروس وزمنى لتوظيف طاقات الشباب خلال العطلة الدراسية أو من خلال الأنشطة الدراسية اللاصيفية فى مجالات مكافحة الأمية، والنظافة، وحملات التشجير مثلاً لكان هذا أفضل وأجدى وأنسب من الانشغال بأنشطة أخرى ذات طابع احتفالى تنشغل بكل شىء فتفقد التركيز. ولنتذكر أن المدارس اليابانية هى أقل مدارس العالم توظيفاً لعمال النظافة لأن تلاميذها يضطلعون بهذا الدور ليس فقط داخل المدرسة بل خارجها فى الشوارع المحيطة بها. أما فيما يتعلق بمضمون جلسات المؤتمر فقد بدت جلسة الإصلاح الإقتصادى مثيرةً للإعجاب حيث ضمت خبيراً مستقلاً هو المهندس شريف دلاور بمداخلته النقدية اللافتة وهو يتحدث عن الاستثمار الحميد والاستثمار الخبيث وكيف نعالج معضلة إنتاجنا المحلى فى صالات (السوبر ماركت) لكى يصبح 70 أو 80% مما يُباع فيها منتجاً محلياً وليس أجنبياً كما يحدث حالياً. فى الجلسة المتميزة ذاتها رأينا ربما للمرة الأولى مسئولين حكوميين قادرين على عرض رؤية مقنعة وبقدر كبير من الصراحة والنقد الذاتى. هكذا بدت وزيرة التخطيط هالة السعيد وهى تفنّد الأرقام الخاصة بإجمالى صادراتنا (كل أرقامنا محتاجة إلى تفنيد لأن الأرقام وحدها قد تخفى الكثير) قائلة إننا لو تأملنا رقم ال 18 مليار دولار حجم صادراتنا السنوية لاكتشفنا أن 70% من هذا الرقم يتضمن قيمة استيراد مكوّنات أجنبية تعتمد عليها عملية التصدير فلا يتبقى من الرقم الحقيقى الصافى لعملية التصدير سوى عدة مليارات قليلة. بدت وزيرة التخطيط مقنعة وناقدة أيضاً وهى تشرح بلغة علمية بسيطة كيف أن معدل النمو هو حاصل جمع الاستهلاك+الاستثمار+صافى التجارة الخارجية أى التصدير مخصوماً منه الاستيراد، وكيف أن المعدل الحسابى للنمو ليس هو المهم لأن الأهم هو مكوّنات هذا النمو وما يكشف عنه من قدرات إنتاجية حقيقية. كان لافتاً أيضاً أن يمتلك وزير المالية الشجاعة لانتقاد سياسة الاعتماد على المنح والمساعدات الأجنبية (ولا شك أنه يقصد أيضاً القروض من باب أولي). تمنيت لو الكاميرا نقلت فى اللحظة ذاتها تعبيرات وجه الوزيرة سحر نصر التى لا ترى فى سياسة القروض (نحو 75 مليار دولار حالياً) سوى اليد الأجنبية التى تمنح القروض لكنها لا تريد أن تتخيّل اليد المصرية التى سيتوجب عليها عاجلاً أم آجلاً رد هذه الديون. أما فيما يتعلق أخيراً بالقرارات التى صدرت فى ختام المؤتمر فالملاحظ أنها تجاوزت فى طبيعتها ومداها ما كان يُنتظر من مؤتمر شبابى ينصرف الاعتقاد إلى انشغاله فقط بقضايا الشباب. هذا بذاته دليل حركة ونشاط وطموح، لكن لدينا خوفاً متأصلاً من قرارات طموحة تصدر ثم تتلاشى أو يطول أمد تنفيذها حتى نكاد ننساها. صحيحٌ أن القرارات مقرونة بخطة زمنية، لكن على أى حال سيبقى التنفيذ وحده هو معيار الحكم على الأشياء. يبقى فى نهاية المطاف التساؤل الذى طلب رئيس الجمهورية من الاعلام الانشغال به حول ضرورة أن يكون هاجسنا الأكبر هو محاولات إسقاط الدولة، وهو تساؤل كبير يحتاج لحديث لاحق. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم