رغم مرور ما يقرب من 22 عاما على مذبحة سربرنيتشا التى اعتبرتها الأممالمتحدة أسوأ مذبحة فى أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، مازالت تداعيات ما حدث خلال حرب البلقان تؤرق الضمير الأوروبى، خاصة وأن الجرح الذى تركته فى نفوس الضحايا وذويهم لم يندمل بعد على المستوى الرسمى أو الشعبى. والدليل الحكم الذى صدر مؤخرا من محكمة الاستئناف فى لاهاىبهولندا، وقضى بأن الحكومة الهولندية ممثلة فى وحدة الجنود الهولنديين المشاركين فى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مسئولة جزئيا عن مقتل 350 مسلما بوسنيا فى سربرنيتشا عام 1995، فى تأييد لحكم مماثل سبق أن صدر عام 2014، نص على أن القوات الهولندية كان بوسعها أن تحافظ على حياة الرجال والصبية الذين لجأوا للقاعدة، وأن تدرك أنهم سيتعرضون للقتل على يد قوات صرب البوسنة اذا اجبروا على الرحيل. وانتهت المحكمة الى أن القوة الهولندية لم تتصرف فقط بشكل غير قانونى، بل انها سهلت عملية فصل الرجال والصبية عن النساء والاطفال، رغم علمها بالتداعيات التى يمكن أن تترتب على ذلك، وانهم يمكن أن يتعرضوا لمعاملة غير انسانية أو يتم قتلهم من قبل صرب البوسنة وهو ما حدث بالفعل. وأضافت المحكمة فى حيثيات الحكم, وأن الكتيبة الهولندية لو كانت قد سمحت لهم بالبقاء، لكان هناك احتمال بنسبة 30% فقط أن يظلوا على قيد الحياة. واعتبرت المحكمة أن الاحتمال الاكبر يتمثل فى أن الضحايا كان سيتم اخراجهم بالقوة خارج المعسكر مهما حاولت قوات حفظ السلام وبذلت من جهد لحمايتهم، وبذلك يتعين على الحكومة الهولندية أن تقبل بتحمل قدر من المسئولية عما حدث وتدفع تعويضات لأسر أكثر من 300 ضحية.
ومع أن الحكم يعتبر استثنائيا وبالغ الاهمية نظرا لأن الأممالمتحدة تتمتع بالحصانة من الملاحقة القانونية، كما أنها المرة الأولى تقريبا التى يتم فيها تحميل دولة مشاركة فى بعثة سلام تابعة للأمم المتحدة المسئولية عن أعمالها، فضلا عن كونها أقرت مبدأ دفع تعويضات لأقارب الضحايا، الا أن هذا الحكم لم يضع نهاية مرضيه لاى طرف من أطراف النزاع. فمن ناحية اعتبر الحكم صادما لأهالى الضحايا، حيث وصفت «مجموعة أمهات سربرنيتشا» وهو تجمع لأهالى ضحايا هذه المذبحة، الحكم بأنه غير عادل لأن هولندا يجب ان تتحمل المسئولية بشكل كامل، ليس فقط عمن تم تسليمهم من داخل المعسكر بعد اقناعهم بضرورة التخلى عن سلاحهم. ولكن عن الالاف الذين تواجدوا خارج المعسكر بعد أن رفضت القوات الهولدنية ادخالهم بدعوى اكتظاظ المكان باللاجئين، فاضطروا للبقاء خارجه معتقدين أن محيطه أمن من هجمات صرب البوسنة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل سلمتهم لاحقا لهذه القوات مقابل الافراج عن 14 جندى هولندى احتجزتهم الميليشيات الصربية، حيث جرى قتل هؤلاء على مدار عدة ايام ودفنهم فى مقابر جماعية. ومن وجهة نظر من أقاموا الدعوى، فإن تحميل القوات الهولندية المسئولية عن مقتل 350 شخص فقط من مجموع أكثر من 7 الاف ضحية يعنى أن العديد من أقارب الضحايا لن يحصلوا على تعويضات، وهو ما يعنى عمليا تخفف الحكم الصادر عام 2014. أما على الجانب الهولندى، فرغم أن الحكومة اعترفت سابقا بفشلها فى حماية المدنيين، الا أنها حملت صرب البوسنة المسئولية كاملة عن المذبحة التى جرت، بل أن 200 جندى من الكتيبة الهولندية رفعوا بدورهم دعوى قضائية ضد الحكومة الهولندية، وطالبوا بتعويض قدره 4,5 مليون يورو عن الاضرار النفسية التى وقعت عليهم أثناء تأديتهم لمهمتهم، خاصة وأن وزيرة الدفاع الهولندية اعترفت العام الماضى أنها كانت مهمة مستحيلة، وأن الوحدة التى أرسلت افتقرت الى الاعداد الجيد والتسليح الكافى فى ظل ظروف الحرب القائمة آنذاك. هذه النتيجة سبق وقبلت بها كل من الأممالمتحدة والحكومة الهولندية، حيث أقر الجانبان بما توصل اليه أكثر من تحقيق انتهى الى مسئولية الطرفين عن ارسال القوة الهولندية لمنطقة مضطربة دون تحديد واضح للمهام المنوط بهم تنفيذها، ودون احاطتهم بالمعلومات المخابراتية الكافية عن قوات صرب البوسنة وبدون استراتيجية واضحة لتنفيذ مهامهم، وهو ما اسفر فى النهاية عن حالة التخبط التى انتهت بقتل اكثر من 7الاف بوسنى مسلم. بل أن الأمين العام الاسبق كوفى أنان سبق وأكد عام 2005 فى الذكرى العاشرة لمأساة سربرنيتشا التى وصفتها الاممالمتحدة بالابادة الجماعية، أن اللوم يقع بالدرجة الاولى على أولئك الذين خططوا ونفذوا المذبحة والذين ساعدوهم، ولكنه يقع ايضا على الدول الكبرى والأممالمتحدة، كون الاولى فشلت فى اتخاذ اجراءات كافية لردع الطرف المعتدى، والثانية اى الاممالمتحدة ارتكبت أخطاء جسيمة قبل وأثناء وقوع المذبحة. وهو ما يعنى أن ماساة سربرنيتشا ستظل نقطة سوداء فى تاريخ الأممالمتحدة. لقد اتفق المحللون على أن الحكم على أهميتة لم يضع نهاية لحالة من الجدل مازالت قائمة داخل المجتمع الهولندى، فمازالت التساؤلات تطرح حول دور ومسئولية القوة الهولندية المشاركة عن هذه المذبحة، التى طالما طاردت الهولنديين أكثر من مرة وتسببت عام 2002 فى استقالة الحكومة، بل وتذهب التوقعات الى أن كل من الضحايا والحكومة سيستانفان الحكم مرة أخرى، وهو ما يعنى أن هذه القضية ربما تشهد فصولا أخرى فى المستقبل.