{ أخيرا أصبح لأوروبا وجه وصوت, وجهها يجسده هيرمان فان رومبي, رئيس وزراء بلجيكا, الذي اختاره زعماء27 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي, رئيسا للمجلس الأوروبي, أو الرئيس الأوروبي الجديد, لمدة عامين ونصف العام, 30 شهرا, تتجدد مرة واحدة, وصوتها تجسده كاثرين اشتون البريطانية, لتكون الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية, أو وزيرة الخارجية الأوروبية, وبذلك تتمكن أوروبا, كما قال دومينيك دو فيلبان رئيس وزراء فرنسا الأسبق, ان يكون لها دور في العالم الجديد مع القوة الأحادية الأمريكية. فمنذ عام2005 والاتحاد الأوروبي يحاول بلا نجاح, اعادة صياغة مؤسساته السياسية لتواكب العصر الجديد سواء الخاص بالتوسع الذي شهده الاتحاد الأوروبي الذي بات يضم27 دولة بعد انضمام دول الكتلة الشيوعية السابقة, أو الخاص بوضع العالم الجديد بعد سقوط الشيوعية واحتكرت الولاياتالمتحدة الهيمنة وفرضت نظامها عليه. ففي ذلك العام وضعت لجنة فرنسية رأسها فاليري جيسكار ديستان رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق, مشروع دستور يعيد تشكيل الاتحاد الأوروبي في ضوء تلك المتغيرات ويعطيه رئيسا ووزير خارجية يتحدث باسمه في المحافل الدولية, ولكن فشل الدستور الجديد في الحصول علي الموافقة الجماعية المطلوبة, فقد رفضه شعبا كل من فرنسا وهولندا في استفتاء عام, وفي عام2007 وبعد انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا لفرنسا تمت اعادة صياغة مشروع الدستور الأوروبي ليرضي جميع الأطراف, وأطلق عليه معاهدة لشبونة التي أرادها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مجرد معاهدة لتسهيل عملية التصديق عليها, واستبعد طرحها للاستفتاء الشعبي حتي لا ترفضها الشعوب مرة أخري, ودعا دول الاتحاد الي طرحها للتصديق عليها من خلال البرلمانات, واعتبرت معاهدة لشبونة وسيلة لكسر الجمود الذي دخلت فيه المؤسسات السياسية الأوروبية منذ مايو عام2005. ولكن معاهدة لشبونة واجهت مرة أخري نفس المصير عندما رفضها الشعب الايرلندي في الاستفتاء الذي أجرته الدولة, حيث ان دستور ايرلندا يفرض التصديق علي المعاهدات عبر الاستفتاءات الشعبية, وهكذا عاد مشروع أوروبا السياسية للجمود مرة أخري حتي عام2009 عندما وافق عليه أخيرا الشعب الايرلندي والبرلمان البولندي, ولم يعد هناك عقبات امام بناء أوروبا السياسية والتي تسعي لأن يكون لها دور في النظام العالمي الجديد ويسمع صوتها من خلال رئيس ووزير خارجية. إذن, ان كان دور الرئيس الأوروبي الجديد لن يختلف كثيرا عن دور رئاسة الدول بالتناوب, فما أهمية التغيير؟ يري الخبراء ان اهم نتيجة للتغيير الحالي هو أولا, اختيار شخصية معينة لترأس المجلس, بدلا من ان يتولي الرئاسة بالتناوب دولة من دول الاتحاد حسب دورها, ويكون رئيسها هو الرئيس الفعلي للدورة, وثانيا, ان الرئيس الذي انتخبه زعماء الدول الأعضاء سيتولي مهامه لمدة عامين ونصف العام, بدلا من ستة أشهر كما كان الحال بالنسبة للتناوب, وهكذا يكون للرئيس الأوروبي الوقت الكافي لكي يضع سياسات ويطبقها, كما أن فترة الرئاسة تمنح الرئيس الفرصة لتحقيق الاستقرار لسياسات أوروبا علي المستوي الدولي مما يسهل عملية التفاوض والتواصل مع سائر دول العالم. ولكن مهما كان دور الرئيس الأوروبي الجديد, فانه بلا شك لن يرتفع الي مستوي دور رؤساء الدول الأعضاء, فهو لن يتخذ قرارات بل سيكون بمثابة الوسيط الذي يسعي لايجاد حلول الوسط لتقريب وجهات النظر بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن, لماذا تم انتخاب فان رومبي وكاثرين اشتون بشكل خاص بدلا من توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق كما كان متوقعا؟ يري الخبراء ان انتخاب شخصية مثل توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق كان سيعطي ديناميكية للمنصب بلا شك, بينما سعت معاهدة لشبونة للحد من سلطاته, لذلك تم اختيار رومبي لأنه, حسب آراء معظم المحللين السياسيين سوف يعطي المنصب دورا أكثر تواضعا ولن يثير أية منافسة مع رئيس اللجنة الأوروبية. لذلك تلقي رئيس الاتحاد الأوروبي الجديد انتقادات عنيفة من قبل بعض السياسيين الأوروبيين, فقد أوضح البعض انه لم يظهر أبدا أية اهتمام خاص بفكرة أوروبا ولم يتحدث أبدا عنها ولم يطرح أبدا أية رؤية أو تصور من جانبه لأوروبا المستقبل, وفي نفس الوقت وجه دانيال كوهين بانديت, الرئيس المناوب لمجموعة الخضر في البرلمان الأوروبي, هجومه الي زعماء الدول الأعضاء الذين انتخبوا الرئيس والوزيرة, خاصة الغموض الذي ساد العملية, بالرغم من إقراره بأنها خطوة تاريخية, ولكن بانديت انتقد الزعماء ال27 خاصة المستشارة الألمانية إنجيلا ميركيل والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي, لاختيارهم شخصيات لن تعارض سياساتهم, بل ولن يكون له أي دور في وضع سياسة الاتحاد إزاء القضايا الدولية, وقال كوهين بانديت إن الزعماء الأوروبيين أرادوا ان يقتصر دور الرئيس الجديد علي تنظيم موائد الإفطار والغداء, حتي تظل سلطة السياسة الخارجية كلها في أيدي الدول الأعضاء فلا يفرض المجلس الأوروبي سياسته الخارجية عليهم, وهي الصورة التي أراد مشروع الدستور ومعاهدة برشلونة تغييرها. هذا التوجه من جانب الزعماء الأوروبيين يشير الي انهم مازالوا يرفضون فكرة الوحدة السياسية الأوروبية, ويتمسكون بالاستقلالية في اتخاذ القرارات الدولية, وهي التي تعتبر جوهر السيادة القومية, وهو يعني أيضا ان الدول الأوروبية مازالت غير مستعدة للتنازل عن سيادتها علي قراراتها الخاصة بالسياسة الخارجية, ولكن ما حدث يوم الخميس19 نوفمبر هو بدون شك خطوة تاريخية في البناء الأوروبي الموحد.*