حضارة الأمم دائماً ما ترتبط بأحداث فارقة فى حساب الزمن.. وحضارة مصر الضاربة فى أعماق التاريخ تزخر بهذه الأحداث العظام.. فهى كدولة مركزية فى قلب العالم من أقدم الدول التى تمتلك جيشاً نظامياً له تاريخه العريق.. امتلكت القوة ولكنها لم تكن دولة معتدية.. ومع ذلك امتد نفوذها عبر ثلاث قارات من واقع موقعها الجغرافى بين قارات العالم القديم والذى ميزها بخصوصية فريدة حيث تمتد مساحتها بين آسيا وأفريقيا.. ومن هنا ظهرت أهمية شبه جزيرة سيناء كمدخل إفريقى برّى وحيد إلى آسيا شرقاً وإلى أوروبا شمالاً وغرباً. لقد ظلت سيناء على مر السنين بموقعها المنفتح على ثلاث قارات.. والبوابة الشرقية لمصر.. وأيضاً بما لها من تاريخ فى استقبال الرسالات وملتقى الحضارات.. ظلت عبر العصور مسرحاً للعمليات الحربية للكر والفر... كما ظل الفراغ السكّانى والسّكون الشامل ومشروعات التنمية المعّطلة على أرضها.. ظل كل ذلك مغرياً للمعتدين وطموحات الطامعين وهدفاً للتهجير إليها والذى ازدادت ملامحه مع بداية الألفية الثالثة فى القرن الحادى والعشرين. وتاريخ الصراع العسكرى على أرض سيناء يبدأ مع الأسرة الفرعونية الأولى (أى فى عام عام 3200 قبل الميلاد ) حيث ظلت هذه البقعة من أرض مصر تعيش فى أمان دون أن يعكر صفوها إلا من بعض إغارات الطامعين المتمردين على حكم الفرعون إلى أن شن الهكسوس حملتهم على مصر عبر سيناء عام 1674 قبل الميلاد فى ظل حكم الأسرة الرابعة عشرة حيث بدأت حملتهم من منطقة بئر سبع ثم تقدموا شمالاً بمحاذاة الساحل الشمالى لسيناء إلى أن وصلوا إلى الدلتا وليستمر احتلالهم قرابة قرن من الزمان إلى أن بدأت حرب التحرير بقيادة أحمس وطردهم من مصر. ثم تعاقبت الحملات العسكرية عبر سيناء فى عصور ما بعد احمس (تحتمس الثالث ومعركة ماجدو عام 1468 قبل الميلاد) حيث تم تكثيف القلاع والتحصينات على الاتجاهات الحيوية فى سيناء خاصة فى عهد سيتى الأول وعصر رمسيس الثانى والذى قام بشن العديد من الحملات الحربية عبر سيناء وكان أشهرها معركة قادش عام 1288 قبل الميلاد.. وهكذا يستمر الصراع عبر سيناء إلى أن وقع غزو الآشوريين عام 674 قبل الميلاد إلى أن نجح بسماتك فى طردهم. ومنذ عام 525 قبل الميلاد جاءت حملات الفرس عبر البوابة الشرقية لمصر (أى عبر سيناء أيضاً) واستقروا فى منف.. لكن جيش مصر استطاع تحرير البلاد من الفرس.. ثم تمر السنون إلى أن عاد الفرس مرة أخرى واقتحموا سيناء فى عهد الإسكندر الأكبر فى عام 332 قبل الميلاد.. وبوفاته نشأ صراع من أجل اقتسام الممالك وتكون مصر من نصيب البطالمة إلى أن انتهى عصرهم بتقدم أغسطس واخترق سيناء فاتحاً مصر عام 30 قبل الميلاد وليبدأ عصر الرومان الذين اهتموا بإنشاء خطوط دفاعية وتحصينات خاصة فى منطقة تل الفارما حتى حصن بابليون وعلى الساحل الشمالى لسيناء من العريش حتى رفح شرقاً. وخلال حكم الرومان شهدت سيناء حملات عسكرية متعددة إلى أن قامت حملة الفرس التالية فى عام 618 ميلادية عندما هاجموا مصر وتغلبوا على الدفاعات الرومانية فى سيناء ووصلوا إلى الدلتا إلى أن انتصر عليهم هرقل قائد الروم لتعود سيناء مرة اخرى إلى حكم الرومان. على أن حكم الرومان لم يستمر طويلاً.. ففى ديسمبر عام 639 ميلادية بدأ الفتح الإسلامى لمصر عبر شبه جزيرة سيناء وتمكن عمرو بن العاص من هزيمتهم وليعم السلام والهدوء بعد ذلك على أرض سيناء وفى مصر عموماً.. على انه فى عصر أحمد بن طولون وفى عهد دولة الإخشيد شهدت البلاد عبوراً آخر لجيش مصر عبر سيناء نحو الشام فى عام 878 883 ميلادية لتأديب حاكمها الذى كان يُعد قواته لغزو مصر. واستمرت سيناء مسرحاً للكر والفر إلى أن بدأت الحروب الصليبية (1117 1187 ميلادية) حيث تعرضت مصر لأكثر من نصف قرن للعديد من الحملات الحربية إلى أن استطاع صلاح الدين التقدم عبر سيناء فى اتجاه فلسطين والقدس وانتصر عليهم فى موقعة حطين عام 1187 ميلادية.. وبقيام دولة المماليك فى مصر فى عام 1250 ميلادية بدأت حروبها ضد زحف التتار وذلك بعبور جيش مصر بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس وانتصر جيش مصر عليهم فى موقعة عين جالوت عام 1260 ميلادية.. هذا وقد اولى المماليك أهمية خاصة لسيناء باعتبارها اتجاها وأراضى مصرية لها أهمية قصوى للبلاد عسكرياً وتجارياً وأيضاً دينياً.. إلى أن بدأت الحملة العثمانية على مصر فى عام 1516 ميلادية ليلتقى الجيشان المصرى والعثمانى فى معركة مرج دابق حيث أوشك أمراء المماليك على تحقيق الانتصار لولا خيانة بعض القادة والأفراد المماليك وليحسم الجيش العثمانى المعركة لصالحه ويدخل السلطان سليم الأول القاهرة فى عام 1517 ميلادية. بعد ذلك.. ارتبطت الوقائع فى سيناء بعد حفر قناة السويس عام 1869 ميلادية كممر للملاحة الدولية حيث دارت حولها الأطماع إلى أن جاءت الحملة التركية عبر سيناء فى عام 1915 ثم فى عامى 1916، 1917 إبان الحرب العالمية الأولى لمهاجمة القوات البريطانية فى جبهة قناة السويس.. ثم حملات اللورد اللنبى عبر سيناء شرقاً فى اتجاه فلسطين.. ثم فى الحرب العالمية الثانية أثناء الإحتلال البريطانى لمصر...، إلى ان دارت جولات الصراع العربى الإسرائيلى المسلح عبر سيناء أيضاً بدءاً بحرب فلسطين عام 1948 ثم حرب العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 وحرب يونيو عام 1967 وحرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر عام 1973. وهكذا.. ظلت شبه جزيرة سيناء بموقعها الجغرافى الفريد والبوابة الشرقية لمصر.. وبما لها من تاريخ فى استقبال الرسالات السماوية.. ومعبراً للرسل والأنبياء.. وملتقى الحضارات.. ظلت هذه البقعة الطاهرة التى تعتبر من أكثر بقاع مصر ارتواء بدماء أبنائها الأبرار وخير أجناد الأرض.. مسرحاً للعمليات الحربية على مر الزمان.. وهدفاً مغرياً للطامعين. لذلك لن يختلف أحد على أن تنميتها وتعميرها هو أمر استراتيجى بالدرجة الأولى يرتبط بالأمن القومى لمصر.. وهو ما يجعل أهمية تعميرها أمراً حيوياً ليس أمنياً فقط.. ولكن اقتصادى وبشرى أيضاً.. فهى (أى سيناء) منطقة واعدة.. غنية بثرواتها الطبيعية التى تكتنزها تحت الثري.. وبكل مقوماتها وآثارها التاريخية والدينية ومناخها.. لذلك فإن الموضوع الأهم فى هذا الشأن هو ما يتعلق بالتوطين والإستقرار وخلق مجتمعات زراعية وصناعية عمرانية على ارضها ترتبط بالارض إلى الأبد.. فسيناء كانت ومازالت أفضل المناطق المؤهلة التى يمكن على أرضها تعديل خريطة التوزيع السّكانى لمصر.. لذلك.. نحن نريدها مشروعاً قومياً عملاقاً يلهب الوجدان وحائطاً لصد طموحات الطامعين فى رؤية متكاملة وشاملة تجمع بين التنمية والدفاع عنها.. ومصدراً للخير والنماء والازدهار.. ولتحقيق حلم الذين عبروا وحققوا الانتصار فى حرب اكتوبر المجيدة ولمن ارتوت رمالها بدمائهم وهن يدافعون عنها.. من أجل أن تكون سيناء جنة للأجيال الحالية والقادمة.. وليبقى الإنسان المصرى فيها متماسكاً يزداد قوة وصلابة عبر الزمن بإذن الله. رئيس عمليات الجيش الثالث الميدانى فى حرب أكتوبر 1973 لمزيد من مقالات بقلم لواء أ ح م مسعد الششتاوي