"الصدقة الجارية" مصطلح إسلامي، صكَّه الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مؤكدا أن ثوابها يصل للمرء بعد موته، فكأنها بمثابة حياة ثانية له، وما أروعها من حياة، وما أجملها من صدقة، تضعها في يد مسكين، أو تؤمن له احتياجا، ومستقبلا، كما تعود بفوائد جمة على المجتمع، إذ تحد من الفقر، وترسم بسمة على وجه المساكين. فيما رواه عنه أبو هريرة، رضي الله عنه، وأخرجه الإمام مسلم، في صحيحه، قال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثةٍ: إلا من صَدَقَة جَارِيَة، أو عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِح يَدْعُو لَهُ". و"الصدقة الجارية" مفهوم واسع للصدقة التي يستمر ثوابها بعد أن يموت المتصدق بها، ولا تقتصر على الأموال فقط، فمن قام بتعليم شخص فتعليمه له صدقة جارية، ومن قام بهداية شخص فأعمال الأخير تصب في ميزان حسناته، كصدقة جارية، وهلم جرا. وهكذا تظل الصدقة الجارية مستمرة بعد موت الإنسان، بسبب خيرها الذي لا يتوقف للفرد والمجتمع، بل يبقى ثوابها جارياً له، بعد وفاته، لأن الانتفاع بها من قبل الآخرين، لم يتوقف، بل استمر.. هذا مع الحرص على إخلاص النية لإرضاء الله تعالى، بعيداً كل أشكال المراءاة. روى ابن ماجه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ". (حسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه"). وعن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "سبعٌ يجري للعبد أجرُهن، وهو في قبره بعد موته: مَن علَّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته". (حسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب") . وهكذا نجد الصدقة الجارية تتنوع ما بين: بناء مسجد، ونشر العلم، وتوزيع المصاحف، وتفاسير القرآن، والكتب العلمية، وأسطوانات الكمبيوتر، وإيصال الماء للمحتاج إليه، وحفر بئر، والتبرع بالدم، وكفالة يتيم، وتعليم القرآن، وتلاوته، وبناء المستشفيات، وشراء أجهزة طبية، والتبرع بالطعام، والكتب المدرسية، والملابس، والأدوية، وزرع الأشجار، وحتى الأخلاق الطيبة لأبناء الميت، باعتبارها نتاج تربيته.. إلخ. ومن فطنة المسلم أن يبادر للعمل الصالح قبل موته، وأن يحرص على فعل ما يتعدى نفعه للآخرين، بعد موته (الصدقة الجارية)، فإن فاته ذلك في حياته، فقد جعل الله تعالى له نصيبا، مما يتصدق به آخرون باسمه، بعد موته، ويلحقه ثوابه. وقد تواترت الأحاديث تؤكد ذلك، ففي الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها: "أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا (أي: ماتت فجأة)، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟، قَالَ: نَعَمْ، تصدَّق عنها". قال العلماء: في هذا الحديث أن الصدقة عن الميت جائزة، وأن الميت ينتفع بها، ويصله ثوابها، مؤكدين أن "هذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم". وفي "شرح النووي على مسلم"، قال النووي: "في هذا الحديث: أن الصدقة عن الميت تنفع الميت، ويصله ثوابها, وهو كذلك بإجماع العلماء". وفي حديث ابن عباس عند "البخاري": أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهْوَ غَائِبٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الْمِخْرَافَ (البستان) صَدَقَةٌ عَلَيْهَا". قال ابن تيمية: "الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين".. فأين نحن من هذا الباب الواسع من أبواب الخير.. أحياء، وأمواتا؟ [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;