مصر الجديدة.. ليست مجرد حى من الأحياء القديمة التى لابد لنا من العودة إلى ما تحفظه الذاكرة القاهرية، وصور الأبيض والأسود لنرى تاريخا بدأ منذ عام 1905. هى مازالت حيا راقيا يحتفظ بكثير من مفرداته التى لا توجد فى أى مكان فى بر مصر سوى فى هذا المكان. الكلام يطول حول شخص البارون أمبان الذى كتب أسمه فى سجل التاريخ بهذا الحى الراقى العريق صاحب خطوط المترو، والبواكى و 00٫امقاهي، والطراز المعمارى المنتمى إلى هذه الخلطة الرائعة من الطراز الأندلسى الإسلامى ، والطراز الكلاسيكى الراقى الذى عرفته مدن ومبانى أوروبا القديمة. ولهذا سكن هذا الحى ومنذ البدايات طبقة جديدة شديدة الخصوصية فى تفاصيل حياتها ومعيشتها وواقعها الذى فرضته على القاهرة. إذن هو حى لا يمكن فصله عن تاريخ القاهرة المحروسة التى دائما ننتبه إلى مجدها القديم المتمثل فى القاهرتين إن صح التعبير- القاهرة التاريخية الحاضنة للخليفة والجمالية والسيدة زينب، والقاهرة الخديوية التى تمثل درتها شوارع و عمارات وسط البلد. ولكن مصر الجديدة - وكما يقول المهندس محمد أبو سعدة رئيس مجلس إدارة الجهاز القومى للتنسيق الحضارى تضم أكثر من 700 مبنى ذات طابع معمارى متميز ربما يفوق محافظات كاملة. والآن نجد اننا أصحاب مهمة خاصة فى هذا الحى العريق، فجهاز التنسيق الحضاري، كما هو معروف يقوم بمهمتين أولاهما خاص باعداد قاعدة بيانات للحفاظ على المبانى التراثية، وثانيتهما وضع أسس ومعايير للحفاظ على هذه المناطق، ورسم السياسات الخاصة بالمناطق التراثية و المجتمعات الجديدة أيضا. وقد قمنا بتسجيل حوالى 6700 مبنى تراثي مصري لهم طبيعة معمارية مميزة. وهذه المبانى يرشحها تاريخها، و المدرسة المعمارية التى تنتمى إليها، و الشخصيات المؤثرة التى عاشت بها، وارتباطها بأحداث وسياق تاريخى يعبر عن حقبة مهمة من تاريخ مصر. أما أول المناطق التراثية التى قمنا بحصر أبنيتها فكانت بمنطقة القاهرة التاريخية، والقاهرة الخديوية ثم بعد ذلك الزمالك و جاردن سيتى و المعادى ثم مصر الجديدة. كما سجلنا أيضا كثيرا من المناطق التراثية بالمحافظات ومنها على سبيل المثال مبانى محافظة الاسكندرية و منطقة بور فؤاد التى تضم عمارة مصرية فريدة. فصيانة هذه المبانى والحفاظ عليها هى محور اهتمامنا، ولهذا كان لابد من البداية وضع أفكار وصيغة للتعاون مع المحليات والمحافظات و الهيئات العامة والمجتمع المدني، كما حدث فى القاهرة الخديوية بمنطقة وسط البلد حيث تم التعاون مع محافظة القاهرة و قاطنى عمارات وسط البلد و المجتمع المدني. ويضيف المهندس محمد أبو سعدة: وأعتقد أن أهم خطوة هى تنمية الوعى بالحفاظ على هذا التراث العريق غير المتكرر، فهناك دول لا تمتلك فى رصيدها التراثى أكثر من 50 منشأة معمارية متفردة، ولهذا نرعى الآن مبادرة لإعلاء قيم الجمال فى مصر بالتعاون مع منظمة اليونسكو و الجمعيات الأهلية التى تعتمد على مجموعة من الندوات والمحاضرات ليتعرف المصريون على جماليات العمارة و مفرداتها الفريدة. كما اننا لا نملك الضبطية القضائية، والأسس و المعايير التى توضح لنا كيفية التعامل مع المبانى التراثية. فنحن نضع الاستراتيجيات و المحليات تقوم بالتطبيق. ولهذا نحن نهتم بمهمة المحليات، ونقدم دورات تدريبية لمهندسى الأحياء. وأتوقع أن يقوم جهازنا بدور أكبر استنادا للقانون 144 لسنة 2006 حتى نستطيع القيام بدورنا الحافظ للتراث. وبالنسبة لمصر الجديدة، فإننى أعود وأؤكد أنها تمثل منطقة تراث حضارى وتستحق مشروعا قوميا من الدولة للحفاظ عليها ضمن أهم المواقع التراثية. تركيبة خاصة ويتحدث إبراهيم صابر رئيس حى مصر الجديدة عن العقارات ذات الطراز المميز التى توجد الآن مبادرة لصيانتها و المحافظة عليها، وعلى المساحة الخضراء، خاصة أهم الحدائق بالحى التى قد طالتها يد الأهمال وتدخل جهاز شئون البيئة بعد أن قام أحد المستثمرين باستغلال 7 أفدنة من مساحتها التى تبلغ إجمالها 50 فدانا فى عام 2008. كان لابد من عودة الروح مرة أخري، وبدأنا فى الحى بالعمل على مساحة 25 فدانا وهى نصف مساحة الحديقة تقريبا، وتحدثنا مع وزير البيئة ومحافظ القاهرة و أضفنا 1600 شجرة تحت إشراف جهاز التنسيق الحضارى ووزارة البيئة ورصدنا ما يقرب من 30 مليون جنيه لإتمام هذا المشروع. وهناك جزء آخر ينتظر حل هذه المشكلة سواء قضاء أو رضاء لتعود الحديقة إلى حالها. كما تجرى ترميمات فى منطقة غرناطة خاصة بالمقصورة الملكية التى ستحول إلى مسرح مكشوف تتسلمه دار الأوبرا المصرية قريبا ليصبح ضمن إداراتها. وهناك تركيبة سكانية خاصة بحى مصر الجديدة لابد أن تراعى بالتصدى لكل المحال أو المقاهى المخالفة لنسق الحى والتى تهدف إلى تحويل الأماكن السكنية المميزة إلى أماكن ذات نشاط تجاري. وهذا أيضا يتكامل مع الجهود بتطوير ميادين مصر الجديدة ومنها روكسى والجامع. استثمار الجمال ويناقش د. عباس الزعفرانى عميد كلية التخطيط العمرانى معنى الجمال فى المدينة وأهميته الاقتصادية. فهناك تصور سائد أن جمال المدن لا يشكل قيمة أو أهمية، إلأ أن الواقع يثبت عكس ذلك، لأن القيم الجمالية للمدينة جاذبة للنشاط الاقتصادى الذى يستفيد منه الأغنياء والفقراء على حد سواء. وأبسط مثال هو المراكب النيلية التى يستقلها السائحون عند زيارتهم مصر و تتراوح بين مراكب بسيطة وفنادق عائمة، ورغم اختلاف كل منهما فى العائد المادى الا أن كلاهما يمنح فرصا للعمل. والمعروف أن نسبة كبيرة من دخل مصر القومى تحصل عليه من السياحة، وأن تراجع الحركة السياحية يشكل نوعا من الضغط الاقتصادي. والحركة السياحية ترتبط بالجمال و الأمن فى أى مدينة. وبالنسبة للمبانى إن القيمة العقارية ترتبط أيضا بتحقيق الجمال، ولذلك نجد بعض الشقق المطلة على النيل تتجاوز قيمتها أربعة أضعاف شقق مجاورة فى نفس العمارة أو البناء ولكنها تطل على شوارع داخلية. ويضيف د. عباس الزعفراني: وجدنا أن الشقق المطلة على النيل تصل قيمتها وبشكل تقريبى إلى 40 مليار دولار، وهو ما يعنى أنها ثروة قومية لابد من الحفاظ عليها و مصدر لجذب الاستثمارات. ونهر النيل أمام منطقة الزمالك على سبيل المثال يمكن أن يمثل منطقة خضراء متميزة لا تستطيع أى من المدن الموجودة على أنهار أوروبا تحقيقها. ومع ذلك فنحن لدينا ندرة فى المساحة الخضراء خاصة فى القاهرة. فكل فرد فى العالم يحتاج مساحة من 10-18 مترا مربعا، ولدينا فى المدن الجديدة وفى أحسن تقدير تصل هذه النسبة من 11-13 مترا مربعا، تتراجع فى القاهرة نفسها إلى 1,5 متر مربع للفرد. والجمال مؤثر ليس فقط فى القيمة العقارية، فتأثيره يمتد إلى السياسة نفسها و إدارة الشئون الداخلية فى المدن والمحافظات. فمن الممكن أن يحقق بعض المحافظين شهرة و استمرارا لعنايتهم بمحافظتهم كما حدث فى الاسكندرية و قنا. ولهذا عندما ننظر إلى أحوال القاهرة لابد أن نعرف أن وجود حدائق و مناطق جميلة يضيف إلى الآثار التى قد تبدو مطموسة وسط إهمال أو تراجع فى ترميمها والحفاظ عليها. وحى مصر الجديدة من الأحياء ذات التميز الخاص التى يمتلك الفرد فيها رغم وجودها فى القاهرة إلى ما يقارب 7 امتار مربعة، فهو يحتفظ بمساحة خضراء جيدة وصاحب ثراء عمرانى يعود عمره إلى أكثر من 5 آلاف عام . صحيح أن المكان لم يكن يحمل اسم مصر الجديدة قبل أن يأتى إليها البارون أمبان، ولكنه معروف تاريخيا، وحين أنشئت مصر الجديدة جاءت بطراز معمارى منتم إلى الطراز النيو اسلاميك، وليتحدد فيها كل صغيرة وكبيرة،حتى بالنسبة لوسائل المواصلات العامة و على رأسها مترو مصر الجديدة.
المقصورة الملكية تنتظر عودة الروح بعد سنوات الاهمال وأخيرا.. لابد لنا من وقفة لاكتشاف العناصر الجمالية وحمايتها و صيانة المبانى المتميزة و تنظيفها لتحسين الوضع العمرانى واستغلالها اقتصاديا بشكل أفضل فى كل مكان فى مصر. فقد فقدنا الأوبرا ومعالم كثيرة حضارية للقاهرة، و ماتزال مخاطر الزحام والكبارى و العشوائيات تهدد القيمة الجمالية والاستثمارية للقاهرة الجميلة. ذاكرة متفردة ويشير د. أحمد رضا عابدين رئيس لجنة حصر المنطقة الشرقية لحى مصر الجديدة أن الحفاظ على المنشآت و المبانى ليس لها قيمة الا بالحفاظ على البيئة ومبدأ تميز الأماكن. وهناك سجل لذاكرة مصر الجديدة، ومنذ عام 2007 ونحن نقوم برصد المبانى ذات القيمة و الحفاظ على الحدائق المتميزة. ولدينا الآن رؤية للعمل على الحفاظ على مبان مهمة تاريخيا، بالإضافة للحفاظ على الفراغات وهو أمر يعتبر أساسيا وحيويا فى عملية التنسيق الحضاري. وقد وصلت اللجنة لتحديد 740 مبنى ذات قيمة معمارية متميزة. فى هذا الحى الذى يعتبر تميزه المعمارى أساسا لفكرة بنائه، ولكن ما يجب أن نعرفه أن هناك مساحات عمرانية يعانى بعضها من نوع من التدخلات العشوائية التى يجب إزالتها ليعود الوضع إلى ما كان عليه. وتعتبرالمنطقة الشرقية فى حى مصر الجديدة هى منطقة القلب و النواة، وقد بدأ التطور العمرانى فى حى مصر الجديدة مبكرا منذ تأسيسها عام 1905، وهناك محاور عمرانية و توزيع للأنشطة السكانية، ولهذا نجد فى هذا الحى الكثير من الاشتراطات الأساسية التى جعلت منه كيانا لابد من الحفاظ عليه. فالتعديات قد أثرت على هذا الحى وبناء العمارات الشاهقة لتتحمل مرافق المبانى العريقة والمميزة من كهرباء و صرف صحى و طرق، وهو ما يجعل هذا الحى الذى يعتبر تحفة فنية فى مأزق كبير. ينتهى الحديث عن هذا الحى الذى مازالت بعض مبانيه التراثية تستوعب الكثير من الاقتراحات و الأفكار. ولكن وطبقا لإصدار الجهاز القومى للتنسيق الحضارى وطبقا للقانون 119 لسنة 2008 وباعتماد المجلس الأعلى للتخطيط و التنمية العمرانية هناك حدود للمناطق ذات القيمة المتميزة بمصر الجديدة و نطاقات لحمايتها، واشتراطات عامة لا تجيز إقامة أو تعديل أو نقل عناصر معمارية من هذه المبانى أو الترخيص بالاستعمالات الضارة بالعقارات أو تشغيل أية وحدات تجارية أو إدارية جديدة على ما هو قائم بالفعل. وباختصار شديد ماذا يحدث وسيحدث فى حى مصر الجديدة الذى يريد العودة إلى مجده وعزه القديم؟!.