تعتبر قضية الوطنية وتعريفها من أكثر الأمور الشائكة في المجتمعات المختلفة، حيث يصر البعض على حصر تعريفها في مناصرة النظام السياسي والامتناع عن طرح الأسئلة وتبني مواقفه مهما بدا أنها لا تسير في الاتجاه الصحيح،بينما يؤمن آخرون بأن الوطنية في مواجهة النظام بأخطائه وإجباره على تصحيح مساره حتى لو أدى ذلك لفضح أدوار لمؤسسات يجب أن تكون خلف الستار بحسب الأدبيات السياسية. ................................................................ حول هذه الصراع تدور أحداث أحدث أفلام المخرج الليبرالي الشهير أوليفر ستون «سنودن» والذي كما يظهر من عنوانه يتناول قصة إدوار سنودن خبير البرمجيات الذي عمل لسنوات في الاستخبارات الأمريكية قبل أن يقرر بشكل مفاجئ فضح الممارسات غير الأخلاقية لها والتي كان أبرزها كما نتذكر تورطها في التجسس على كل كائن بشري في العالم بمن فيهم كبار المسئولين في الدول الحليفة بدعوى الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي. ستون اعتاد إثارة الجدل بأفلامه السابقة خاصة التي يختلط فيها الوثائقي بالدرامي مثل «جيه إف كيه» الذي كذّب الرواية الأمريكية الرسمية حول مقتل جون كينيدي، وفيلم «نيكسون» الذي أعاد تصنيف الرجل الذي يعتبره كثيرون أسوأ رئيس في تاريخ أمريكا ليس باعتباره بطلا ولكنه تصرف في فضيحة ووترجيت الشهيرة التي أجبرته على الاستقالة وفقا لثقافة السياسيين والمؤسسات الأمريكية المحافظة، ثم أخيرا فيلم «على الحدود الجنوبية» عام 2012 الذي دافع فيه عن دول أمريكا الجنوبية المناهضة للسياسة الأمريكية انطلاقا من مسئولية البيت الأبيض وصندوق النقد الدولي عن إفقار شعوب تلك الدول. في فيلمه الجديد يعود ستون لمهاجمة العقلية المحافظة المهيمنة على النظام الأمريكي وهو موقف متوقع من مخرج معروف عنه قناعاته الليبرالية التي تقترب من اليسار، يفتخر بمشاركته في المظاهرات الشعبية ضد حرب فيتنام في ستينات القرن الماضي، لكنه في موقف يحسب له لم يتجاهل الهجوم على إدارة الرئيس الحالي أوباما التي لم تكفر عن الذنوب التي ارتكبتها إدارة الحزب الجمهوري المحافظ بحق الحريات الشخصية لمواطني العالم. يبدأ الفيلم بلقطة الذروة وهي لقاء سنودن مع صحفي ومصورة في أحد فنادق هونج كونج، حيث بدأ يكشف عن فضائح الاستخبارات الأمريكية في التجسس على زعماء العالم. وطوال 134 دقيقة هي زمن الأحداث يمزج ستون ببراعة غير مستغربة منه بين مشاهد الفلاش باك، ومشاهد الحاضر ليعطي المشاهد فكرة كاملة عن سنودن، وحياته وكيفية التحاقه بالاستخبارات الأمريكية باعتباره نابغة في البرمجيات، مع لمحات إنسانية عنه مثل ارتباطه بالفتاة التي تشاركه حياته. من اللحظة الأولى في الفيلم يظهر صراع على الأولوية بين الفني ممثلا في تركيب الفيلم بشخوصه ومشاهده، وبين السياسي ممثلا في الرسالة التي أقدم ستون على إخراج الفيلم لتوصيلها وهي إدانة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش أول من سمح لأجهزة الاستخبارات في بلاده بالتوحش في عمليات التجسس بدعوى حماية الامن القومي. لكن ستون للأمانة يستحق التحية على قدرته المذهلة في المزج بين المسارين دون أن يطغى أيهما على الآخر، حيث تجبرك حرفيته العالية كمخرج متمكن من أدواته على متابعة أحداث الفيلم بشغف ودون إحساس بالملل رغم طول مدته التي اقتربت من ساعتين وربع الساعة. طوال الاحداث يجد المشاهد نفسه شغوفا بمتابعة تطور قصة الحب بين سنودن وصديقته ليندسي التي سارت بالتوازي مع القصة الأساسية لعمله في المخابرات وتفاصيله، كما أجاد ستون الانتقال بين المشاهد العادية ومشاهد الفلاش باك لإضفاء الحيوية على أحداث الفيلم. وفي نفس الوقت لا تشعر كمشاهد في أي لحظة أنك بعيد عن الرسالة الأساسية للفيلم وهي الحنق على إدارة أمريكية حمقاء أعماها فشلها في أحداث 11 سبتمبر 2001 عن اعتبار الحقوق الإنسانية الأساسية وأبسطها الحق في الخصوصية. فأغلب الجمل الحوارية داخل الفيلم حافلة بالدلالات التي لا تحتاج لكثير من الجهد في فهم مغزاها، حيث برع ستون الذي شارك في كتابة سيناريو وحوار الفيلم في خلق مواقف حوارية تعكس التعارض بين رأي المحافظين المؤمنين بمناصرة الدولة وحقها في عمل ما يتراءى لها في سبيل الأمن مهما بلغت درجة انحرافه عن القانون، ورأي الليبراليين المدافعين عن الحقوق الإنسانية حتى لو تعارضت مع مصلحة الدولة انطلاقا من أن الأخيرة ليست سوى تجمع لعدد من البشر وبالتالي فإن مصالحهم أكثر أهمية وإلحاحا من مصلحة الدولة نفسها. لعل أبرز جملة حوارية في الفيلم هي التي بين العميل الشاب الذي بدأ يكتشف حقيقة الكوارث التي ترتكبها الوكالة، ورئيسه، حيث يؤكد الأخير أن «الأمر بسيط بالمعايير التجارية، فالناس تريد الأمن وهي سلعة عليهم دفع ثمنها، ونحن رأينا أن الحرية هي الثمن الذي عليهم دفعه» فيرد عليه سنودن بأنه «من غير الأخلاقي أن نحدد السلعة وثمنها ونجبر الناس على دفعه دون حتى أن يعرفوا ذلك أو يوافقوا عليه». يذكرنا ذلك ببراعة ستون المعتادة في توظيف الجمل الحوارية لتوصيل رسائل سياسية في أفلامه، حيث لا يزال كثيرون يتذكرون جملته الحوارية الشهيرة في فيلمه «نيكسون» حين يقول الرئيس الأمريكي الأسبق موجهاً حديثه الى صورة لجون كينيدي معلقة على أحد جدران البيت الأبيض، «عندما ينظر الأمريكيون اليك، يرون ما يحبون ان يكونوه، وعندما ينظرون اليّ، يرون ما هم عليه حقاً». لكن يبقى أبرز نجاح لستون في المزج بين الماضي والحوار، والحقيقي والتمثيل في مشهد النهاية عندما يبدأ الممثل جوردون ليفيت الذي يجسد دون سنودن حوارا عبر سكايب مع أحد البرامج الحوارية الأمريكية، ثم في منتصف الحوار يظهر سنودن بشخصه الحقيقي، ما ضاعف من عمق تأثير المشهد على المشاهدين.