تحت هذا العنوان صدرت رواية الأديب الكبير محمد ناجي عن سلسلة روايات الهلال عدد يناير2010 وليلة سفر هي السابعة في مسيرة محمد ناجي الروائية التي بدأها عام1994 برواية خافية قمر. ثم لحن الصباح ثم مقامات عربية ثم العايقة بنت الزين ثم رجل أبله... امرأة تافهة ثم الافندي وأخيرا وليس آخرا ليلة سفر... سبع روايات خلال ستة عشر عاما, رقم يشير إلي اعتدال في حجم الانتاج الفني, فالرجل غير مقل كما أنه غير مكثر. والمتابع لأعمال محمد ناجي الروائية يمكنه أن يلحظ ذلك العبور الهاديء المطمئن من الكتابة الصعبة التي تحتاج إلي جهد من قارئها وكاتبها إلي نوع من الكتابة الصافية, الحانية, شديدة العمق واسعة الدلالة. تدور أحداث ليلة سفر في حي العباسية بالقاهرة, وهو أحد أشهر معاقل الطبقة الوسطي التي تتكون من الموظفين وصغار التجار وأصحاب الحرف, هذه الطبقة الأكثر تأثيرا وتأثرا وتعبيرا عن الوطن في حالات ضعفه وحالات انتعاشه, هي خزانة آماله وأحلامه وطموحه, كما أنها خزانة آلامه وأحزانه. بيت من طابق أرضي يعلوه طابق واحد... في الطابق الأرضي محل انعكست عليه تحولات الحالة الاقتصادية للوطن... فمن محل للتحف والفضيات إلي ورشة لنجارة التوابيت لشحن جثث قتلي الجيش البريطاني, إبان الحرب العالمية الثانية, ثم عودته مرة أخري ولفترة قصيرة إلي تجارة التحف والفضيات ثم أصبح بعد بيع البيت محلا للفواكه والخضر وسرعان ما انتشرت حوله كل مظاهر السوق والسوقية. البيت يملكه قبطي صعيدي عدلي وهو نفسه صاحب ومدير المحل قبل أن يضطر للبيع, ويتحول الدكان والمكان كله إلي سوق للخضر والفواكة.. في الطابق الثاني شقة يعيش فيها عدلي وزوجته وابنته كوكب, وإلي جواره شقة أخري يعيش فيها موظف مسلم عبد القوي مع حفيده نصر... ترصد الرواية في غير إغراق في التفاصيل حياة العائلتين( القبطية) و(المسلمة) والعلاقة بينهما التي شابها في بداية الأمر شيء من التحفظ سرعان مازال حين جمع بينهما الموت... موت زوجة القبطي عدلي ومشاعر المواساة الصادقة من جانب جاره المسلم قربت بين العائلتين, كما جمع بينهما الموت مرة أخري حين ماتت زوجة المسلم عبد القوي ثم موت ابنه الوحيد في غارة علي بورسعيد أيام حرب السويس عام1956... جمعت الآلام بين العائلتين فأصبحا كيانا واحدا يكمل بعضه بعضا... يعلق أحدهما علي الأحداث بآية من القرآن, فيتم التعليق من جاره بآية من الإنجيل. وإذا كان ألم( الفقد) هو ما جمع بين العائلتين قديما إلا أن الذي زاد من حتمية الاتحاد بينهما هو( الخطر)... خطر انهيار البيت متأثرا بزلزال أكتوبر ثم( خطر) بيعه مرة أخري لأحد أغنياء هذا الزمان ليهدمه فيصبح( المسلم) و(القبطي)معا بلا مأوي... بلا وطن. تسبب الزلزال في شرخ بالجدار الفاصل بين الشقتين, من هذا الشرخ الذي هو خطر وتهديد بالإنهيار أصبحت الأسرة المسلمة مكشوفة للأسرة القبطية, وأصبحت الأسرة القبطية مكشوفة أيضا للأسرة المسلمة... في إمكان أي منهما أن يتابع مجريات الأمور في الشقة المجاورة دونما أي شك في شبهة التلصص أو التنصت. هكذا وبأمر الحياة والزلزال أصبحا كيانا واحدا يعيش في بيت واحد مهدد بالانهيار وبالبيع. في الشقة المسلمة لم يعد سوي الجد عبد القوي وحفيده, وفي الشقة القبطية لم تعد سوي كوكب السيدة الكبيرة التي خرجت إلي المعاش بعد أن قضت عمرها في التدريس.. اثنان من كبار السن يعيشان تحت الخطر ويتابعان ما يجري حولهما من تحولات العصر بكثير من الحسرة علي المعاني الحلوة التي ضاعت... الجد والسيدة الكبيرة فقدا الأمل في التواصل مع ذوي قرباهم... فالحفيد مصمم علي السفر هربا من واقع يربكه ويحبطه ويحيل حياته إلي أوهام, والسيدة الكبيرة فقدت الأمل في التواصل مع أخيها المنكب علي ذاته, وغير العابيء بأي تواصل ما لم يكن وراءه منفعة. ترصد الرواية ليلة سفر الحفيد نصر الذي هرب من كل شيء حتي من وداع جده, وترك له رسالة من كلمتين بحبك يا جدو ثم اتصل به تليفونيا من المطار ليودعه, فلم يكمل العبارة لأن الكارت التليفوني نفد رصيده... فظلت سماعة التليفون في يد الجد تزن, وحين سألت كوكب جارها الحزين عن المتكلم... أشار إلي سماعة التليفون التي تزن وقال نصر.. بهذه الكلمة نصر يختتم ناجي روايته التي لا أدعي أنني قدمت مختصرا لها, ولا أقدر علي ذلك وإن حاولت, لأن في الرواية لغة تصل إلي الحد الأقصي من العذوبة والشفافية, والأحداث زاخرة بالمعاني التي يعز علي ايضاحها في هذه الكلمة الصغيرة... كل ما يمكنني قوله أني أحببت هذه الرواية الصافية العذبة, التي ذكرتني بجيران وزملاء وأصدقاء وأساتذة كان لهم دينهم ولي ديني وكان لهم كبير الأثر في تكوين عقلي ووجداني وبدونهم أفقد نصف وجودي...