يواجه اتفاق السلام الذى لم يُكمل عامه الأول فى جنوب السودان خطر الانهيار الكامل إذا لم يتم بسرعة احتواء الخلاف الذى أدى إلى مذبحة فى جوبا أوائل الشهر الحالى وهروب نائب الرئيس قائد المعارضة المسلحة رياك مشار إلى مكان غير معلوم وإقالته وتهديده بأن تقتحم قواته العاصمة وتسيطر عليها خلال ساعات إذا فشلت قمة دول مجموعة (إيقاد) فى إرسال قوة حفظ سلام،وإذا حدث ذلك فمن شبه المؤكد وقوع مجزرة جديدة فى العاصمة أوعودته بقواته إلى معقل التمرد بالريف لاستئناف الحرب الأهلية الشاملة،الأمر الذى سيقضى نهائياً على الأمل فى إحلال السلام ويعمِّق انعدام الثقة أكثر بينه وبين الرئيس سلفا كير ويصعِّب جداً دمج قواتهما المنصوص عليه فى اتفاق السلام بنهاية الفترة الانتقالية. تعقَّد الموقف أكثر بمحاولة كير شق صف المعارضة بتعيين وزير المعادن ورئيس فريق مفاوضى المعارضة المسلحة تعبان دينق نائباً أول للرئيس بدلاً من مشار لرفضه العودة إلى جوبا إلاّ بعد نشر قوة عسكرية محايدة للفصل بين قواتهما ولم يستجب للمهلة التى حددها الأول للعودة وقرر فصل دينق من حركته.وبينما بررت قيادات الحركة تعيين دينق مؤقتاً حتى يعود مشار بأنها ترغب فى تمكينها من مواصلة تنفيذ بنود اتفاق السلام قال متحدث باسمه إن تعيينه سيجعل العملية السلمية غير قانونية ويصعِّب أكثر تنفيذ الاتفاق.وجاء بيان مفوضية مراقبة اتفاق السلام التابعة لمنظمة (إيقاد) داعماً لموقف مشار حيث أعلنت تمسكها به نائباً أول للرئيس ورئيساً شرعياً للمعارضة المسلحة مؤكدةً أن تغيير القيادة من شأن مؤسسات المعارضة المسلحة وحدها،لكن قيادات دول (إيقاد) أرجأوا قمتهم بخصوص إرسال القوة المقترحة للفصل بين قوات الطرفين من أمس إلى الجمعة المقبل. تمسُّك كل طرف بموقفه يجعل من الصعب نزع فتيل التوتر المتصاعد حيث رفض الرئيس طلب نشر قوة مسلحة محايدة واعترض على قرار القمة الإفريقية الأخيرة إرسال قوة من خمسة آلاف جندى أو توسيع صلاحيات قوات الأممالمتحدة المنتشرة بالفعل وعرض حماية مشار إما بقوة من تلك الموجودة أو بواسطة القوات الحكومية متعهداً بضمان سلامته،أما نائبه فرهن عودته بنشر القوة المحايدة فى جوبا لأنه لا يثق فى وعود الرئيس وأعلن متحدث باسمه أنه لا داعى لعودته ليتم اغتياله وقال مؤيدون له إنه لا ينوى العودة إلى جوبا وإنه يتهم كير بالسعى لقتله بينما حذر متحدث باسم الجيش الحكومى الاتحاد الإفريقى من نشر قوات بدون موافقة الحكومة قائلاً إنه ستجرى مقاومتها.وإذا استمر هذا التمترس فإن القتال لا بد واقع فى ضوء تحذيرات الأممالمتحدة المتكررة من احتمال تجدد المعارك وإعراب أمينها العام بان كى مون عن خيبة أمله واستيائه ممن يضعون مكاسب السلطة فوق مصالح الوطن واتهام مجموعة الأزمات الدولية الطرفين بتجاهل اتفاق السلام والإعداد لخوض صراع واسع.كما توقع خبراء حدوث تمرد جديد فى غرب البلاد بواسطة أبناء قبائل (الفراتيت) التى تدعمها قبائل معادية للدينكا مثل النوير وكانت تقاتل مع القوات المسلحة السودانية ضد متمردى الجنوب قبل انفصاله عام 2011 واستشهدوا بالاشتباكات الدموية التى وقعت فى (واو) عاصمة إقليم غرب بحر الغزال مؤخراً وقتلت العشرات وشردت مئات الآلاف من المدنيين بعد هجوم ميليشيا من قبيلة سلفا كير(الدينكا) تدعمها قوات حكومية على المدينة ونهب ممتلكات للأهالى. وهكذا عُدنا إلى المربع الأول ولا تبدو فى الأُفق شواهد مُقنعة بأن اتفاق السلام الموقَّع فى أغسطس الماضى سيتم تنفيذه كما هو مقرر أو أن الحرب الأهلية لن تتجدد أو أنه لن تُبتلى البلاد بتمردات مسلحة جديدة مادامت التصرفات المتخبطة وقصيرة النظر مستمرة من طرفى الصراع اللذين يقدمان مصالحهما وقبائلهما على مصلحة الوطن رغم أن الدينكا لا تشكل سوى 30% من السكان (12,3 مليون) ولا يتعدى تعداد النوير 20% منهم وتوجد نحو 60 قبيلة غيرهما لها الحق فى السلطة والثروة والعيش فى سلام وأمان.فالحرب أودت بحياة 50 ألفاً فى عامين فقط وشردت مليونين من ديارهم ولجأ نحو مليون إلى دول مجاورة وخرَّب القتال الزراعة والحصاد ودمر ثلث المدارس أو أحدث بها تلفيات وتم إغلاقها ويواجه 4,8 مليون انسان نقصاً غذائياً حاداً خلال شهور وحذرت منظمات الإغاثة من أن 3,9 مليون يواجهون الموت جوعأ أوعطشاٍ ويحتاج 4,7 مليون رعاية صحية عاجلة..ورغم كل هذه المآسى لا يبدو أن الإخوة الأعداء الذين حاربوا 22 عاماً للإنفصال عن السودان بدعوى تهميشهم وهضم حقوقهم قد استوعبوا الدرس بدليل أنهم مارسوا السياسة نفسها ضد أبناء القبائل الأخرى واستنكفوا أن يعطوهم حقوقهم المشروعة ليعيش الجميع فى سلام. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى