أفغانستان .. تلك الدولة التى كانت قبل نحو نصف قرن تنعم بالتقدم و والتحرر، وكانت مصدرا لتخريج الكتاب والصحفيين والدبلوماسيين وغيرهم من الكوادر المشرفة، أصبحت المركز الرئيسى لتخريج الإرهابيين والمتطرفين فى العالم. و اقتصرت أخبارها التى تصل إلى العالم على التفجيرات وما تخلفه من مئات الضحايا الأبرياء، أو على مفاوضات سلام عادة ما تبوء بالفشل ، أو على أخبار عن اختفاء أو مقتل أحد زعماء حركة طالبان وتعيين خليفة له ليستكمل مسيرة التشدد والتطرف والإرهاب. وكان أخر هؤلاء الملا هيبة الله أخونزادة، الذى تم تعيينه زعيما للحركة فى مايو الماضي، خلفا للملا أختر منصور الذى قتل فى ضربة جوية أمريكية. «الاتفاق ممكن إذا تخلت الحكومة فى كابول عن حلفائها الأجانب .. أبواب المغفرة والصفح مفتوحة .. رسالتنا الواضحة هى أننا لا نريد احتكار السلطة، كل القبائل والأعراق الأفغانية تحتاج بعضها بعضا» .. تلك كانت أول تصريحات أخونزادة ، وأول رسالة يوجهها للحكومة منذ توليه المنصب، والتى أطلقها منذ أيام قليلة. وطالب أخونزادة خلال تصريحاته بإنهاء وجود القوات الأجنبية على الأراضى الأفغانية كخطوة أولى نحو تسوية ترضى جميع الأطراف، وتفتح الباب لنشر السلام فى البلاد، التى مزقتها الحرب طويلا. ولا شك أن جميع الأطراف تتوق وتنتظر تلك اللحظة التى يعم بها السلام، ولكن أفلح أخونزادة إن صدق، فحتى وإن كانت تلك رغبته، فليس بإمكانه القيام بأى شيء من دون الحصول على إجماع من مجلس الشورى، أى القيادة العليا فى الحركة، والتى غالبا ما ترى أن استمرار الحركة وقوتها يعتمدان على مدى شراستها ودمويتها. والأراء والتحليلات السياسية، التى جاءت على خلفية تاريخ أخونزاده مع الحركة تنم عن أنه يتمتع بصرامة وقسوة لم يتمتع به القائدان السابقان الملا منصور والملا عمر. والدليل على ذلك أن تصريحات أخونزادة جاءت بعد يومين من هجوم انتحارى أسفر عن مقتل أكثر من 30 شرطيا وإصابة العشرات، وعدد من التفجيرات التى شهدتها كابول ومناطق متفرقة فى البلاد راح ضحيتها المئات من المدنيين الأبرياء، مما يدل على أنه يتوجه بالحركة نحو المزيد من التصعيد والصدام واستخدام أسلوب إستعراض العضلات لإرهاب الحكومة الأفغانية. وهو ربما ما دفع زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهرى إلى بث تسجيل صوتى يعلن خلاله مبايعته لأخونزادة. ويرى بعض الخبراء فى شئون الجماعات الجهادية أنه بعد معاناة تنظيم القاعدة من التهميش وتراجع دوره، خاصة بعد مقتل مؤسسه ومموله بن لادن وظهور داعش الذى أستطاع سحب البساط من تحت قدميه بالحصول على التمويل الغربى الذى كان من نصيب القاعدة قديما، فقد وجد ضالته فى الملا أخونزادة .بمعنى أنه مع كشف أخونزاده عن شراسته ودمويته، إلى جانب نجاحه فى توحيد صفوف مقاتلى الحركة (التى شهدت انقساما كبيرا فى ظل الملا منصور وإنشقاق عدد منهم عن الحركة ومبايعة البغدادي) قد أعاد الأمل للقاعدة فى امكانية الاتحاد مع طالبان لتكوين جبهة قوية يمكنها منافسة تنظيم داعش. أخونزادة .. خبرة عسكرية قليلة ودينية كبيرة ولد هيبة الله أخونزاده، 55 عاما، فى مدينة بولدك بمقاطعة قندهار فى جنوبأفغانستان. وهو أحد أفراد قبيلة نورزاي، التى تنتمى لعرقية البشتون، التى تشكل الأغلبية النسبية بين عرقيات أفغانستان، وينتمى لها زعماء وغالبية مقاتلى الحركة. تلقى أخونزاده، تعليمه الأول فى المدارس الدينية داخل أفغانستان حيث كان والده فقيها وإمام مسجد، وبعد الإحتلال السوفيتى لأفغانستان، ذهب مع أسرته لباكستان، وبها أكمل دراسة العلوم الشرعية فى مدارسها الدينية المنتشرة بمناطق القبائل، ثم عاد لعقر داره ليقاتل مع المجاهدين ضد الاحتلال السوفيتي. ومع إندلاع الحرب الأهلية بين المجاهدين اعتزل القتال واتجه للتدريس الديني، ثم عاد لصفوف القتال مرة أخرى حينما التحق بصفوف حركة طالبان بعد الإعلان عنها فى منتصف التسعينات، حيث كان صديقا شخصيا للملا عمر، مؤسس الحركة. وقد تولى الملا هيبة الله مسئوليات فى المحاكم الشرعية، و رأس دائرة القضاء العسكرى إبان فترة حكم طالبان اعتبارا من العام 1996، وفى أعقاب الإطاحة بنظام الحركة من قبل القوات الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر، عين مجددا على رأس المحاكم التابعة لطالبان فى مناطق سيطرتها فى الداخل الأفغاني. كما تولى امامة مسجد فى مدينة كويتا، مقر مجلس شورى طالبان، وبعد وفاة الملا عمر أصبح رئيس اللجنة السياسية والقضائية داخل الحركة. ومن وقتها عرف عنه التشدد حتى مع أعضاء الحركة، حيث كان يصدر أحكاما قاسية خلال توليه منصب رئيس المحاكم فى قندهار، وصولا إلى إصدار حكم بالإعدام فى حق أى شخص يشكك فى قيادة الملا منصور. ونتيجة لذلك قتل الكثير من قادة القبائل. لذا يرى البعض أنه يفتقر للخبرة فى الشئون العسكرية مقارنة بحجم خبرته فى شئون الشريعة والدين، حيث بقى الزعيم الجديد بعيدا عن ساحات المعارك، وكان بمنزلة مستشار ديني. ومن المتوقع أن يكون قائدا رمزيا، بينما ستترك الإدارة العملية للحركة على الصعيدين العسكرى والسياسى فى أيدى مساعديه، الملا يعقوب النجل الأكبر للملا عمر، وسراج الدين حقاني.