ينتهى رمضان، وتختفى أشياء، وتبقى أخرى، فإن كانت اختفت الموائد الرمضانية من الشوارع أو الشوادر، أو ينخفض عدد رواد المساجد، أو تختفى مظاهر تجمع الأسرة على مائدة واحدة وقت الغروب، إلا أن الله يأمرنا بأن نداوم على هذه الطاعات ولو بالقليل فلا نهجرها وأوصى العلماء بالمحافظة على الصلاة فى المسجد، وأن أفضل الصلاة هى صلاة المساجد فلا نهجرها بعد انتهاء الشهر الكريم، وعلينا صيام أيام السُنن مثل الستة من شوال، (أيام متصلة أو منفصلة)، وصيام الأيام القمرية الثلاثة التى كان يصومها النبي، صلى الله عليه وسلم، وصيام الاثنين والخميس لمن استطاع، وأضاف العلماء أن رمضان كان بمنزلة دورة تدريبية على العبادة حصلنا منها على شحنة إيمانية عالية، فلا نقطع صلة الأرحام، وتظل الأخلاق الرمضانية كما كانت خلال الشهر الكريم وألا نقصر فى العبادة، وخاصة تلاوة القرآن حتى لا يكون مهجوراً فى البيت، ويشتكى إلى الله يوم القيامة، وألا ننسى الفقراء بأن نتصدق عليهم، لأن الصدقة تطفئ غضب الله، وتداوى المرضى، وأيضا لا ننسى الصلاة فى جوف الليل. ويقول الدكتور عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، إن الصوم شعيرة من شعائر الله تعالى، تلزم المؤدى لها بكثير من التكاليف الشرعية الزائدة على التكاليف التى يلزم بها من لم يصم، إذ يجب عليه الامتناع عن مفسدات صيامه، من الأكل والشرب ونحوهما، وأن يلتزم بذلك من طلوع فجر يوم صيامه إلى غروب شمسه، وأن يلتزم بتعاليم الإسلام، فلا يرفث ولا يصخب ولا يسب أحدا أو يشتمه، وأن يصفح عمن أساء إليه، وأن يجعل يومه عامرا بذكر الله تعالى، والصوم مدرسة حقيقية يتعلم الناس فيها الالتزام، فتكون تعاليم الإسلام فيه زادا لهم من عام إلى آخر، فضلا عن استلهام الحكمة من تشريعه، باستدامتها خلال العام كله، ولذا ينبغى على المسلم إذا فرغ من صيام رمضان، أن يلتزم بتعاليم الإسلام فى كل وقت سواء فى رمضان أو غيره، والحياة ساحة كبرى أمام المسلم، بوسعه أن يحسن فيها إلى نفسه، وأن يتقرب إلى الله تعالى ما وسعه السبيل إليه، وأن يجتهد فى أن لا يرى إلا على طاعة الله سبحانه، وأن يبتعد كل البعد عن معصيته، وأن يعقد العزم على التقرب إلى خالقه بشتى الطاعات، فقد روى النبى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه قال: (ما تقرب إليَّ عبدى بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه)، وروى النبى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة قال: (عبدى أطعنى أجعلك عبدا ربانيا، تقول للشيء كن فيكون)، وطاعة الله تعالى لا تأتى من فراغ، ولا تكون بالأماني، بل بالأفعال التى من شأنها تحقيق ذلك، وقد رسم الله تعالى للمسلم لتحقيق هذه الربانية سبلا يتوسل بها إليها، فينبغى للمسلم أن يأخذ بأسبابها، ليفلح فى دنياه وأخراه. نفحات أخرى من جانبه يقول الدكتور رمضان عبدالعزيز عطا الله، أستاذ التفسير بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، إن الله تعالى جعل فى أيام دهرنا نفحات كثيرة، ففضل الرسل بعضهم على بعض والأماكن بعضها على بعض والأزمنة، فإذا كان شهر رمضان أفضل الشهور، فهناك أيام فى غير رمضان أحبها الله يجب ألا ننساها وهى أيام العشر من ذى الحجة، بل إن الله عز وجل قد أقسم بها فى قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِى حِجْرٍ) فأقسم تعالى بالفجر، الذى هو آخر الليل ومقدمة النهار، لما فى إدبار الليل وإقبال النهار، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه وحده المدبر لجميع الأمور، الذى لا تنبغى العبادة إلا له، ويقع فى الفجر صلاة فاضلة معظمة، ولهذا أقسم بعدها بالليالى العشر، وهى على الصحيح: ليالى عشر من ذى الحجة، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع فى غيرها، وفيها الوقوف بعرفة، الذى يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رئى الشيطان أدحر منه فى يوم عرفة، لما يرى من تنزل الملائكة والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، وهذا يدل على أن الخير موزع على سائر العام رغم أن رمضان به الخير كله، وهذا من رحمه الله عز وجل، وإن المسلم الحق هو الذى يستغل مواسم الطاعات، وفترات إقبال العبادات، وقال تعالى : ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) سورة إبراهيم وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : الْتَمِسُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ) رواه الطبراني. وأضاف: إن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالسيئات، وعلينا بالإكثار من هذه الطاعات بعد انقضاء هذا الشهر الكريم، والعام كله نفحات كريمة، فيجب أن نتعرض لها، ولذلك يبدأ من ثانى أيام العيد الصيام مرة أخرى وهى أول أيام صيام السُنن كما ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وتأتى هذه الأيام الستة لنقوم بصيامها ونحن نعيش فيها جو رمضان وبركته، وأيضا تعلم الإنسان بعد ذلك أن يصون جوارحه عن المحرمات وعن كل ما يغضب الله عز وجل، ويقول الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)، وهذا يؤكد أن أفضل الأعمال أدومها وإن قل، لأن من علامات القبول أن يتبع المرء الحسنة بالحسنة، ومن علامات الغضب والخسران، أن يتبع المرء السيئة بالسيئة، وما أسوأ أن يترك الإنسان عبادة كان يفعلها، فمثلا كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل، كان يصل رحمه ثم قطع رحمه، فهذا هو الخسران المبين، و روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم أنه قال (أيها الناس أكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُوِم عليه وإن قل).