سألتنى صديقة أقدرها كثيرا، ولم نكن قد التقينا منذ سنوات طويلة « لماذا تتعب نفسك بالكتابة عن هذا البلد المتخلف» وتقصد مصر بالطبع، وواصلت ببساطة «ما تكتب لنا يا فنان عن نفسك،أو عن الفن والثقافة، ليه تضيع وقتك وطاقتك، هو فيه حاجة جدت علينا؟ ما طول عمرنا كده وها نفضل كده» والغريب أنها لم تمنحنى فرصة للرد، فقد انشغلت عنى بآخرين كما هى العادة فى تلك الأمسيات الحاشدة بالضيوف. ولكن حديثها القاطع لم يتركنى فى حالي، ودفعنى للتساؤل بالفعل عن جدوى الكتابة، ماذا يمكن أن تفعل الكتابة الآن ، والهواء الذى أتنفسه ويستنشقه الجميع معبأ بشعارات وعبارات عجيبة: المؤامرة، الخيانة، العمالة، هدم الدولة، التمويل الأجنبي، الأجيال الجديدة من الحروب، أهل الشر، تمكين الشباب، المواطنون الشرفاء، الاستقرار، المعجزات الاقتصادية، وكلها عبارات وحيدة الاتجاه ، فالاستقرار مثلا يتم اختزاله فى إلغاء التظاهر والتجمع ومنع الكلام فى الشأن العام ، مع أن أبسط مواطن يدرك جيدا ماذا فعلته بنا ثلاثة عقود كاملة من الاستقرار المفروض بالعضلات الأمنية فى عصر مبارك، وهل يمكن أن يحدث استقرار حقيقى بإغلاق المجال العام، وبمعاداة جيل يشكل أغلبية الشعب تقريبا؟ ادرك أن الكتابة تبدو مهمة عبثية لأن الوقائع تتلاحق بلا رحمة، وكل يوم تدهمنا مع الصباح فاجعة أو حادث جلل أو كارثة أو قرار خارج التوقعات، وكأنها حملة متواصلة لقطع الطريق على التفكير أو التأمل، لهاث لا يسمح بترتيب الذاكرة وتكوين القناعات. ناهيك عما يواجهه كتاب الرأى، من حملات التضييق والتشويه بل والتشهير أحيانا عندما يجتهدون فتختلف كتاباتهم مع التوجهات الرسمية. لماذا أواصل الكتابة ؟ هل هى مجرد حيلة أتصالح بها مع نفسي، للتحصن بوهم أننى منصهر بواقعى ولست متعاليا عليه، وإننى رغم تقدم العمر مازلت امارس دورا ما، أم أكتب كى أتوازن، وكأنى استنهض طاقة عناد طفولي، حتى لا أستسلم لليأس، ولكى أواصل الدهشة، فإذا غاب الحماس لا أعرف كيف ستكون حياتى فعلا وكيف سأرسم وأضحك أو أحب وابتهج، قد يكون كل ذلك واردا، أما لماذا أكتب عن هموم عامة فى بلد متخلف، فالرد بسيط للغاية، لأننى أعتقد أن التخلف ليس قدرا يونانيا، وقد نجت منه شعوب كانت أكثر بؤسا منا. والتاريخ يعلمنا أن الأفكار هى الفاعل الحاسم فى لحظات التحول الكبيرة، وأنا أعتقد أنها تلعب أدوارا محورية فى حياتنا كمصريين الآن كطاقة مقاومة، مع ضمور السياسة،وانكماش النخب وغياب القيادات وضعف مؤسسات المجتمع المدني، وكل هذه التكوينات الأهلية التى تخترقها الدولة دائما. أما إذا أردت الكلام بتحديد أدق، فإننى أرى أن للكتابة الآن دورا مهما وملحا، فى مواجهة دولة الاستثناء التى عكف على توصيفها الباحثون منذ زمن بنجامين الى شميدت وصولا إلى المفكر الإيطالى البارز أجامبين. دولة الاستثناء تترسخ بتعطيل القانون، ليصبح الطارئ اعتياديا، وتبرر ذلك بوجود تهديدات جسيمة أو مهام استثنائية كالحرب على الإرهاب و المؤامرة الكونية و الضربات الاستباقية أو لدحر قوى الشر. وهى من الجهة الأخرى دولة تصر على أنها تحكم بالقانون وتتمسك به جدا، وهذا صحيح ولكنها تفصل هذا القانون الذى تدعونا لاحترامه، عن صلته الوجوبية بالحقوق وبالعدالة. وكأن القانون قد أصبح وسيلة لفرض الإرادة. وعندما تصبح القوانين نصوصا يمكن الالتفاف على تنفيذها بالإجراءات ،وتفصلها الممارسة عن موضوعها، تتحول إلى أداة للهيمنة على المجتمع ومقدراته: وهكذا يسجن الشباب خمس سنوات ،لأنهم عبروا سلميا عن رأى مخالف لما قررته مؤسسات الدولة حتى قبل أن يعرض على البرلمان، بينما يحمل الموالون الأعلام ويتظاهرون فى نفس الوقت، يهتفون ويلوحون بأصابعهم ولا يقدمون لأى محاكمة، يصبح القانون هكذا انتقائيا، فتنتفى صفته كوسيلة لتحقيق العدالة. أكتب إذن فى الأساس كى أنجو من حياة مهددة، يصبح فيها المصرى معرضا فى أى لحظة لذلك البطش باسم القانون، وخوفا من حياة عارية من أى ضمانات تصون كرامتها، فحصوننا الأخيرة هى العقل وهى القانون، وأعتقد أن دور المثقف هو استحضار العقل دائما، والإصرار على إظهار الحق، فمازالت أحزان الحكيم الفرعونى ايبور حاضرة فى ذاكرتنا، وهو يلوم نفسه لأنه لم يرفع صوته عاليا عندما ظهرت مقدمات الانهيار وعلت المظالم . أرد على صديقتى التى احترم عقلها للغاية، بأن الكتابة بانتقالها من الورقة الى الشاشة، قد انتقلت الى مجال التفاعل الواسع، مجال التواصل المكثف بين المصريين عبر الميديا. ولا أخفى بهجتى وولعى الخاص، بتفجر هذه الكتابة المصرية الجديدة ،نصوص مختصرة وعبارات ساحرة احبها ولا أجيد كتابتها، وتداول بالغ الذكاء للصور ومقاطع الصوت، رغم محاولات التضييق، فدائرة التشارك تتسع وتبدل طبيعتها، وتجتذب قطاعات جديدة، وأراقب بشغف تعدد أشكال النصوص والتركيبات اللغوية والمعانى المباغتة، ورغم الحضور الكريه للمديوكر بلغتهم الميتة قبل ولادتها، فإن نصوصا وحوارات جديدة تتخلق الآن فى مصر، خارج أى هيمنة أو معان رسمية، هناك بالفعل كم من التفكير الجماعى لا يستهان به، تفكير تلعب فيه الصورة والصوت والكلمات أدوارا متداخله، يبدو أن المصريين يدخلون بالفعل إلى المعاصرة، وهم ينتقلون من النص الورقى المكتوب إلى المجال السمع بصرى بعطاياه المذهله، عقول مشرقة وطاقة مبهجة، وتداخل ما بين الخاص الحميم والعام المفتوح للجميع، والانخراط فى هذا التفكير الجماعى يفتح جسورا غير مسبوقة للوعى وللمعرفة، ويوسع النظرة، ويعيد قراءة الذاكرة. صديقتى العزيزة أكتب الآن بحماس أكبر بلا جدال، كى أشارك بقدر متواضع فى زخم هذا الكائن التواصلى الهائل، الذى سيكون عليه أن يكتشف جسورا فعلية، لنقل طاقته مجددا من العالم الافتراضى إلى الواقع الملموس. لمزيد من مقالات عادل السيوى