الغيطاني في رحاب الله. أخيرا انخلع وثاقه الأليم ببرزخ الموت في الحياة، وانطلقت روحه لترفرف في علياء علاه، حاملة سجلا فخورا وكدحا ممهورا بحب الوطن وتراث المتصوفين العرب والمسلمين، وما فتح الله عليه به من تجليات غيطانية، كنقش السجاد الذي كان أول طريقه في الفن والحياة. وهذا السجل الذي بين يديك يحاول اللحاق بجناحيه المنشورين، أخيرا متحررين، في علياء الكون، لنعطي لمحة عنه وعن عطاياه: الغيطاني المتصوف، الأديب، الوطني، المراسل الحربي، الصحفي الأدبي، عاشق التراث المعماري الإسلامي وجده الفرعوني، ثم الغيطاني والأهرام: آخر حوار لم يُنشر له معنا، وحكاياته الأهرامية.. ونعي الدولة بمؤسساتها الكبري له. فهنيئا له الحرية، ولكننا سنفتقده. «ما تبقي أقل مما مضي..يقين لا شك فيه، أعيه، أتمثله، أعيشه.فلماذا أبدو مبهوتاً ؟! مباغتاً كأنني لا أعرف؟ مع أنني المعني والمطوي والماضي الي زوالٍ حتمي؟» … كان الغيطاني علي درجة من الوعي و التصالح مع الذات تكفيه لكتابة هذه السطور قبل اثني عشر عاما من وفاته في روايته «خلسات الكري» التي خرجت للنور في عام 2003.. وكأنه كان يهون من الأمر علي نفسه وعلي أجيال من قرائه و تلاميذه و مريديه الذين شكل الغيطاني وعي ووجدان أجيالهم علي مدي خمسين عاما من الإبداع لن ينساها له التاريخ. هو السوهاجي المنبت ابن قرية جهينة في جرجا, تلك المدينة الصعيدية التي شهدت مولده في التاسع من مايو 1945 ، وفيها أيضا قضي شيئا من مرحلة التعليم الابتدائية حيث تشكلت بذور موهبته و علامات شخصيته الابداعية المتفردة ، ومنها إلي حي الجمالية بالقرب من سيدنا الحسين حيث عاش ثلاثين عاما مع أسرته, وفى أثناء ذلك التحق بعد المرحلة الإعدادية بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية. ومما خبأه القدر للغيطاني، الذي كان يعد نفسه كأديب متميز و مختلف منذ العاشرة من عمره, أنه كان يعمل فترة من عمره مصمما لنقشات السجاد ثم مفتشا علي بعض مصانع السجاد الصغيرة في مصر .. كل هذا لم يثنه عن حلمه الأول ، لا أن يكون روائيا شهيرا فقط ، ولكن أن يصبح صاحب مدرسة فريدة في الكتابة يكون هو أول من يرسي لها. ثم دخل الغيطاني مرحلة جديدة و شديدة الأهمية من حياته حينما انضم لركب صاحبة الجلالة في مصر ، فانتقل من مصنع السجاد إلي مؤسسة أخبار اليوم ليعمل بها مراسلا عسكريا وكلف بتغطية الأحداث علي جبهة القتال في أحداث يونيو 67 وأكتوبر 73 كما زار بحكم عمله جبهة القتال في الحرب العراقية مع إيران. وفي عام 1993، شهدت الحياة الثقافية و الصحفية في مصر انطلاقة جديدة علي يديه عندما أسس صحيفة أخبار الأدب الصادرة عن أخبار اليوم التي باتت منذ صدور عددها الأول أهم وأقوي جريدة ثقافية في مصر والعالم العربي. كل هذا و لم يكل الغيطاني للحظات عن حلم الطفل الصعيدي ذي السنوات العشر بداخله الذي قرر أن يكون حكاء متفردا لا مثيل له في بر مصر . وربما ينظر الآن بعين الرضا لما خلفه وراءه من ثروة اجتهد طوال سنوات عمره السبعين أن يتركها لمن يأتون من بعده : خمسين كتابا وعشرات المقالات و الكتب المترجمة عن أعماله و قائمة طويلة جدا من الجوائز التي استحقها عن جدارة من مصر و الخليج و أوروبا. رحلة الغيطاني لم تكن بالقصيرة و لا بالهينة ، لكن هونها الله عليه بصحبة زوجته الفاضلة الكاتبة الصحفية الأستاذة ماجدة الجندي و ابنيهما محمد وماجدة, التي فضل اختيار اسمها علي اسم شريكة عمره, وحفيده مالك الذي ملأ عالمهم الأسري الصغير بهجة ومحبة.
الأهرام تكشف عن وصايا الغيطاني الأخيرة فور فوزه بجائزة النيل للآداب لعام 2015 ، أجرت الأهرام اتصالا هاتفيا بالراحل جمال الغيطاني تهنئه فيه بالجائزة و تتمني له المزيد من التقدير و التكريم ، فصرح الغيطاني في ذلك الاتصال بأن الجائزة بداية حسنة تؤشر علي أن الحياة الثقافية في مصر تميل إلي التغيير إلي الأفضل . وعندما سألناه عن أمنياته و أفكاره لإنقاذ البيئة الثقافية في مصر، قال الغيطاني: المسألة كلها تبدأ من التعليم وتنتهي عنده. وأضاف: «لا أدري كيف يغفل القائمون علي شئون الحياة الثقافية في مصر عن كتاب الدكتور طه حسين عن التعليم »مستقبل الثقافة في مصر«! أدعو كل مسئول وطني يهمه أمر هذا البلد أن يقرأ هذا الكتاب و ينفذ ماجاء فيه ، ويضع بالطبع في الاعتبار تقنيات التواصل الحديثة التي بتنا نعيشها اليوم». وكشف أيضا عن أنه اقترح قبل ذلك علي وزير الثقافة السابق أن يبتدع سنة جديدة في تكريم أصحاب المؤلفات وهي أن يمنح جائزة أو وساما لكل مؤلف أجنبي أو مستشرق يهمه أمر مصر وكتب عنها. و أشار الغيطاني إلي أننا بذلك سنجني العديد من الفوائد أولها إعادة أنظار العالم إلي مصر الثقافية المبدعة التي تقف شريكا لا يقل بأي حال من الأحوال عن كبار المفكرين والكتاب الغربيين . وأوضح أنه بذلك ستكون هناك أيضا فوائد سياسية مهمة و هي أن العالم الغربي هو من ستصبح الكرة في ملعبه و سيبادر لطرح المزيد من المؤلفات والكتابات عن مصر التي كانت محط هجوم قادة العالم الغربي بالأمس بسبب ثورة الثلاثين من يونيو. وقال أيضا إن لديه المزيد من الأطروحات والأفكار لإحياء الحياة الثقافية في مصر من جديد, «والتي أتمني أن يسعفني الوقت لأطرحها علي المسئولين الذين لا أخفي أن الكثيرين منهم تهربوا حتي من سماعها». وأضاف أيضا أن قصور الثقافة في جميع أنحاء مصر هي كنوز مدفونة إن تم استغلالها علي الوجه الأمثل وعادت إليها الحياة من جديد، مشيرا إلي أن هذه المسألة تطلب الكثير من الوقت ، لكنها علي كل حال أمر يستحق. جوائز و أوسمة ... أهمها جائزة النيل مسيرة عمرها سبعون عاما من الابداع والتفرد، لم تكن لتعبردنيانا دون أن تكلل بالجوائز والتكريمات وشهادات التقدير من مصر و جميع أنحاء العالم. قبل رحيله بشهور، نال الغيطاني جائزة النيل للآداب والتي عبر عن فرحته الشديدة بها قائلا آنذاك : «الجوائز من مصر لها طعم تاني». وعندما سألته الأهرام حينها، لماذا بعد كل ما حصلت عليه من جوائز ؟! قال: لأنها تأخرت كثيرا، وعندما تتذكرني مصر بعد نسيان دام سنوات لابد أن أفرح. و قال إنه حصل علي جوائز من دول كثيرة في الشرق والغرب لكن بالتأكيد هو أمر مختلف عندما تنال جائزة هي الأعلي في مجال الآداب في دولة بتاريخ مصر وعظمتها وقوتها. ومن الجوائز التي حصل عليها الراحل أيضا: جائزة الدولة التشجيعية في الرواية لعام 1980. جائزة سلطان العويس 1997. جائزة لورا باتليون الفرنسية لكتاب التجليات في 2005 مناصفة مع المترجم خالد عثمان. وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي 1980. وسام الاستحقاق للآداب والفنون 1987. جائزة الصداقة العربية 1994. جائزة جرينزانا كافور 2006 للأدب الأجنبي إيطاليا.
معارك الغيطاني الثقافية والسياسية وفي أحد تصريحاته السابقة للأهرام ، قال الغيطاني قبل ذلك إنه دفع ثمن صراحته حول حقيقة الأوضاع الثقافية المتردية التي تمر بها البلاد وبسبب صدامه مع القوي السياسية. و أكد الغيطاني إنه لم يكن في يوم ما محسوبا علي «شلة» وزير أو من رفاق كبار رجال الدولة المرضي عنهم ، لذلك كان كثيرا ما يشعر بأنه في حالة حرب لا تنتهي . والحقيقة أن المتأمل في رحلة حياة الغيطاني يجد أنه كان دائما ما يدفع ثمن ظروف البلاد من حياته و إبداعه ، لكن ذلك لم يثنه أبدا عن مواصلة مشواره, ابتداء من ظروف الحياة القاسية في الصعيد وظروف العمل التي لم تكن تتناسب مع طموحه و لا موهبته, بالإضافة إلي انتماءاته السياسية التي عوقب عليها بالسجن فترة من الزمن... ومن بين هذه المعارك نتذكر: في أكتوبر لعام 1966 ، ألقي بالغيطاني في غياهب المعتقلات بسبب انتمائه لتنظيم شيوعي. وعن فترة الاعتقال ، يقول الغيطاني » حتي عندما لم يكن لدي أوراق وأقلام أدون بها حكاياتي ، كنت أكتب في مخيلتي .. فالحكي والقصص لم تفارقني حتي في أصعب أيام حياتي«. ومن بين المعارك الأدبية السياسية التي خاضها الغيطاني في حياته، معركة ما يعرف بالإمبراطور. والامبراطور هو اسم موقع دنماركي كان يشرف عليه شاعر عراقي كتب مقالا آنذاك يقول فيه إن جمال الغيطاني هو من كتب الرواية المنسوبة للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين تحت عنوان «زبيبة والملك». وفي هذا الوقت لم يكن الغيطاني وحيدا علي جبهته ، بل وقف إلي جانبه عدد من المثقفين والأدباء و المشاهير حول العالم, الذين كانوا واثقين من أن الغيطاني رجل صاحب كلمة ومبدأ ومن المستحيل أن يكون عميلا لنظام حاكم أو غيره .. كما أن الرواية اتسمت بالركاكة التي تجعل العقل يرفض فكرة أن يكون الغيطاني كاتبها. واتجه العديد برأيهم إلي أن السبب في هذه الحرب علي الغيطاني هو محاولة رخيصة لاسكاته بعد سلسلة المقالات التي فضح فيها التدخل الأمريكي في العراق. وكانت لهذه الواقعة في مصر أصداء، حيث وقف البعض ضد الغيطاني ووصفوه ب«عميل صدام» و انساقوا وراء هذه الاتهامات بلا تفكير أو بدافع الانتقام بينما قرر الغيطاني ألا يقف مكتوف اليدين وواصل مسيرته و كلف محاميه بمتابعة الأمر قانونيا لأن البريء لا يخشي شيئا.
الغيطاني .. ذاكرة محفوظ كانت علاقة الغيطاني بمحفوظ واحدة من أهم الملامح التي شكلت حياته الثقافية و الإبداعية . و الحقيقة أن ثمة خطوطا عريضة و أخري دقيقة شديدة التفصيل جمعت بين كل منهما، أولها أن الاثنين من أبناء حي الجمالية, و ثانيها أن الاثنين كانا مولعين بالتراث المصري التاريخي و الإنساني ... هذا بالاضافة إلي اللمحة الصوفية المتينة التي ربطت بين روحيهما. و الجدير بالذكر أنه رغم هذه العلاقة الوطيدة فإن الغيطاني لم يكن في يوم من الأيام ساعيا لتقليد محفوظ أو استنساخ شخصيته. فقد حافظ علي خصوصيته صامدة كما هي رغم قوة تأثير محفوظ عليه. و لم يحدث في يوم من الأيام أن أسقط ناقد أدبي علي أي تشابه بين نصوص المبدعين. ومن بين التحديات التي قبل الغيطاني خوضها في حياته وهو سعيد وراض أن يكون الذاكرة التي تقاوم نسيان محفوظ مادامت الروح فيه.