ما زال من الصعب على حزب العمال البريطانى هضم حقيقة أن اسكتلندا التى ظلت لنحو 50 عاما أرضاعمالية بامتياز، باتت اليوم معقلا للحزب القومى الاسكتلندى الذى يتوقع أن ينال غالبية أصواتها فى الانتخابات العامة المقررة 7 مايو أيار المقبل، تاركا العمال والمحافظين أمام حسابات معقدة لتشكيل الحكومة البريطانية المقبلة. ففى استطلاع للرأى اجرته قناة «سكاى نيوز» التلفزيونية البريطانية حول التوجهات التصويتية فى اسكتلندا، عزز الحزب القومى الاسكتلندى تقدمه بنيله 46% من الأصوات التى تم استطلاعها، فيما نال حزب العمال 27%، والمحافظون 15%، والديمقراطيون الأحرار 4 % من الأصوات. هذا يعنى أن حزب القوميين الاسكتلنديين المتوقع أن ينال نحو 49 من مقاعد البرلمان المقبل، مقابل 20 لحزب الديمقراطيين الأحرار الشريك فى الائتلاف الحكومى الحالى مع المحافظين، سيكون «رمانة ميزان» الانتخابات البريطانية المقبلة. فالعمال والمحافظون سيحتاجان على الأغلب للتحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة. لكن التحالف مع الحزب القومي، الطامح إلى أن يلعب دورا سياسيا بارزا على المشهد السياسى البريطانى كله وليس فى اسكتلندا وحدها، ليس خيارا سهلا. فزعيمة الحزب نيكولا ستورجيون تضع على رأس برنامجها الإنتخابى منح برلمان اسكتلندا السيطرة الكاملة على نظامها الضريبي، وإنهاء سيطرة برلمان ويستمينستر فى لندن على هذا الملف. كما ما زالت ملتزمة بفكرة امكانية طرح استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة فى استفتاء جديد خلال السنوات العشر المقبلة، خصوصاأن السلطات فى لندن لم تنفذ وعدها بمنح الاسكتلنديين المزيد من الاستقلالية فى إدارة شئونهم كما إلتزمت قبل نحو عام لإثنائهم عن دعم الاستقلال الكامل عن المملكة المتحدة. بعبارة أخرى، حزب القوميين الاسكتلنديين يمكن ان يحسم تسمية رئيس الوزراء البريطانى الجديد، لكنه ايضا الحزب الذى يعتقد غالبية السياسيين فى بريطانيا أنه سيؤدى يوما إلى تقويض المملكة المتحدة وتفكيكها. ومع تراجع حزب العمال البريطانى فى اسكتلندا، باتت الاستراتيجية الأساسية لزعيم الحزب ايد ميليباند محاولة تقليص عدد الأصوات التى سيحصل عليها القوميون الاسكتلنديون على أساس ان كل صوت سيفقده القوميون فى اسكتلندا سيذهب حتما للعمال. وبرغم أن الحزب القومى الاسكتلندى سينال على الأرجح الأغلبية المطلقة فى برلمان اسكتلندا ومن شبه المؤكد أن يحتاجه العمال والمحافظون فى تشكيل حكومة ائتلافية، إلا أن الخلافات معه كبيرة أيضا وستجعل أى تحالف مسألة صعبة جدا وحساسة. فإلى جانب رغبة القوميين الاسكتلنديين فى طرح فكرة الاستقلال عن بريطانيا للاستفتاء العام مرة أخرى، والاستقلال الضريبي، يريد القوميون إغلاق محطات الطاقة النووية لآثارها البيئية، وهى قضايا شائكة فى بريطانيا. وبرغم هذه الصعوبات لا شئ مستحيل فى خريطة التحالفات الانتخابية، خصوصاأن صعود الحركة القومية فى اسكتلندا منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى غير فعلا خريطة التحالفات وطبيعة السياسية البريطانية. والأهم أن هذا الصعود قد يكون له الكلمة الأخيرة خلال العقود المقبلة فى تحديد مستقبل الاتحاد البريطانى كله، وهى الحقيقة التى ما زالت الأطياف السياسية فى بريطانيا تحاول استيعابها، خصوصاأنها تأتى من اسكتلندا تحديدا. فالمملكة البريطانية التى تشكلت من اتحاد ويلز وآيرلندا واسكتلندا وانجلترا، نظرت دائما إلى الاتحاد مع اسكتلندا بوصفه الأكثر متانة والأكثر ضمانا. فالاتحاد مع ويلز هو الأقدم لكنه عبارة عن احتلال مباشر من انجلترا، فيما الاتحاد مع آيرلندا كان قصة أكثر تعقيدا بكثير، وحتى اليوم ما زال الأكثر قلقا واشكالية، فهو تاريخ من العنف والذكريات المؤلمة. كل هذا على تناقض كبير من الاتحاد مع اسكتلندا الذى تم التعامل معه لسنوات طويلة كتطور طبيعي، وكتحول لا يحتاج إلى تساؤلات.فالاسكتلنديون اتفقوا منذ وقت مبكر على أن أفضل طريقة للتعامل مع الجار الانجليزى الكبير والعنيف والمتوسع ليست محاربته، بل الاتحاد معه. ومع أن الحزب القومى الاسكتلندى تأسس عام 1934، إلا انه ظل حتى الستينيات هامشيا وعلى اطراف الحركة السياسية. فقط فى منتصف الستينيات والسبعينيات ومع اكتشاف بترول بحر الشمال، انتعشت المشاعر القومية الاسكتلندية ورفعت شعارات «انه بترول اسكتلندا». لكن وصول زعيمة حزب المحافظين مارجريت تاتشر للسلطة عام 1979 غير كل شئ. كانت تاتشر سببا فى بلورة أهداف القوميين الاسكتلنديين. فهى تحت مسميات اعادة تنظيم وهيكلة الصناعات الكبرى، التى تم الكثير منها وفق أجندة سياسية لكسر شوكة النقابات العمالية فى قطاعات التعدين والمناجم والحديد وصناعة السفن، باعت أو خصخصت أو أغلقت كليا صناعات أساسية الكثير منها كان فى اسكتلندا، مما جعل تاتشر فى الوعى الاسكتلندى نموذجا للسلطة الانجليزية اليمينية المحافظة سياسيا واقتصاديا. ولهذا تمكن حزب العمال على مدار 5 عقود من نيل غالبية المقاعد فى كل الانتخابات الاسكتلندية. رغبة الاسكتلنديبن فى أن تكون لهم الكلمة الأخيرة فى كل ما يتعلق بإدارة شئون اسكتلندا، أتت ثمارها فى سبتمبر 1997. ففى استفتاء شعبى من جزئين، وافق 74% من الاسكتلنديين على تشكيل برلمان مستقل من 129 عضوا. وصوت 63% على منح هذا البرلمان صلاحيات من بينها التعليم والخدمة الصحية والبيئة والزراعة. ومنذ 2007 والحزب القومى يفوز باغلبية مقاعد البرلمان الاسكتلندى ويشكل الحكومة، وقد عزز صورته كحزب قادر على إدارة اسكتلندا المستقلة حتى إن لم يكن الرأى العام الاسكتلندى مستعدا فورا للاستقلال عن المملكة المتحدة. اليوم يتمتع البرلمان الاسكتلندى بصلاحيات مطلقة فيما يتعلق بالميزانية والتعليم والشرطة والصحة والطرق والبنية التحتية. كما ان هناك نظاما قضائيا وقانونيا مستقلا، وكنيسة مستقلة. ونتائج الانتخابات المقبلة فى بريطانيا ستكشف مدى عمق رغبة الاسكتلنديين فى الاستقلال الضريبى الكامل عن لندن. فهذه النقطة بالذات والتى تشكل جوهر برنامج الحزب القومى لا يدعمها المحافظون ولا العمال. فى استفتاء الاستقلال الذى جرى فى سبتمبر الماضي، صوتت غالبية ضئيلة لصالح بقاء اسكتلندا فى الاتحاد البريطانى لدواع اقتصادية مصلحية فى المقام الأول. واتحاد اليوم بين المكونات الاربع للمملكة المتحدة سيكون فى مهب الريح إذا تباينت وجهات النظر بشكل واضح بين لندن من ناحية، وادنبرة وبلفاست وكارديف من ناحية اخرى حول كيف يمكن السير بهذا الاتحاد للامام. والجديد أنه للمرة الأولى الكلمة النهائية فى هذه الخلافات ليست بين العمال والمحافظين فقط، بل أيضا سيدة عنيدة من اسكتلندا.