في المرات التي تم فيها استدعاء الجيش للنزول الي الشارع وقف الجيش الي جانب الحاكم وأنهي في أيام مهمته التي طلبها منه, ثم عاد الي ثكناته مؤيدا لشرعية الحكم مواصلا دوره التقليدي في حماية حدود الوطن. في هذه المرة الأخيرة التي طلب فيها حسني مبارك من الجيش النزول الي الشارع يوم28 يناير2011 لم يتصرف الجيش كعادته في المرات السابقة وإنما اختار الانحياز الي الشعب ضد رغبة الحاكم الأمر الذي لم يكن مبارك يتصوره. فمن يتابع تاريخه يلاحظ أنه كان في مختلف الأزمات يتعمد الاجتماع بقادة الجيش بما يعكس تإكيد ثقته في الجيش وثقة الجيش فيه, ولهذا فإنه عندما تأكد له أنه فقد هذه الثقة كان طبيعيا أن يبحث عن وسيلة للابتعاد. والواقع أن نزول الجيش الي الشارع أمر يجري التدريب عليه داخل القوات المسلحة في إطار خطة استدعاء بعض وحداتها في الظروف الطارئة لمساعدة جهاز الشرطة, ولهذا فإنه عندما صدر أمر رئيس الجمهورية بنزول القوات المسلحة يوم28 يناير, كان الأمر يبدو بالنسبة للقوات المسلحة عملا عاديا. وفي مثل هذه الحالات كما حدث في مرات سابقة فقد جرت العادة أن يجري تبادل المسئولية بين الشرطة والجيش في فترة لاتقل عن ثلاثة أيام, وأن يستمر جهاز الشرطة حتي بعد نزول الجيش يواصل دوره في الشارع. إلا أن المفاجأة كانت في حجم الانهيار الذي فوجئت به قوات الجيش التي نزلت الشارع وعدم وجود وحدات للشرطة تتسلم منها أو تتعاون معها وإنما كان هناك غياب شبه كامل للشرطة مما اضطر القوات المسلحة أن ترفع درجة استعدادها للتعامل الفوري مع الشارع في خلال24 ساعة فقط, وبمهام لم تدخل في تدريباتها وهو مالم يكن بالأمر السهل. ثوابت الجيش: لاتوريث.. لا انقلاب.. لا عنف مع الشعب ولم يكن سرا وهذا ماكرره لي مسئولون عسكريون أن مناقشات القادة لأمور الوطن والتي كانت تجري بطريقة شبه سرية انتهت الي عدد من الثوابت التي أصبحت يقينا لدي القادة, علي رأسها رفض فكرة العسكريين أنه ستكون هناك تصعيد لمعركة التوريث تبلغ ذروتها في شهر مايو2011 ومعارضة الشعب له, الأمر الذي لن يتركه قادة الجيش يمر دون تدخل. إلا أن أحدا من القادة فكر في مواجهة الأمر بتدبير انقلاب عسكري فقد كان من الثوابت التي اتفقوا عليها استبعاد فكرة قيام القوات المسلحة بالقفز علي السلطة. بمعني أوضح لن يقوم الجيش بانقلاب فقد انتهي في مصر عصر الانقلابات العسكرية. وفي الوقت نفسه عدم قيام الجيش بتوجيه سلاحه الي الشعب. وقد سمعت أكثر من مرة من أعضاء في المجلس الأعلي للقوات المسلحة امتنانهم للدور الذي وقفه الشعب تجاه قواته المسلحة في فترة هزيمة67 المخزية والمؤلمة, وحسب قول أحد العسكريين المسئولين وهو يغالب مشاعره فإن هذا الشعب العظيم قبل راضيا ربط الأحزمة علي بطنه والتضحية بالكثير من مطالبه لتوفير حاجة قواته المسلحة والوقوف الي جانبها الي أن تمكنت من استعادة بنائها والثأر من هزيمتها في حرب بدأتها في ظروف أصعب كثيرا من الظروف التي خسرتها فيها( أوضح دليل أن قوات73 استعدت للحرب وخططت لكسر عدوها الذي كان علي مسافة مائتي متر وكان في استطاعة العدو أن يراقب علي مدي ال24 ساعة كل خطوات الجيش المصري) الجيش يعلن الحرب علي قائده الأعلي ومن يراجع سلوك القوات المسلحة منذ نزولها الي الشارع يوم28 يناير يجد أنها حافظت بكل قوة علي هذه الثوابت. بالإضافة الي أن القوات العسكرية التي نزلت الي الشارع روعي أن تكون قوات ميدان ولم تكن قوات اشتباكات مع المواطنين, ولهذا كان واضحا ظهور أعداد كبيرة من الدبابات التي بعد أيام من نزولها شعر مواطنون كثيرون بالألفة معها وراحوا يتسابقون لتسجيل صورة مع هذه الدبابات, وقد لاحظ مبارك ذلك وأبدي رأيه للمشير طنطاوي الذي رد عليه بما يؤكد عدم استعداده لاستخدام أي عنف مع الشعب, وقد كان للابن جمال في ذلك موقف أخطر ستكشفه الأيام. وعندما تصدرت صورة مبارك صحف يوم الاثنين31 يناير2011 والي يمينه اللواء عمر سليمان نائب الرئيس والفريق سامي عنان رئيس الأركان خلال زيارة قام بها مبارك لمركز للقيادة العسكرية, كان الهدف من الصورة إبلاغ ميدان التحرير والشعب في كل مكان ثقة الجيش في مبارك, ولهذا جاء رد القوات المسلحة سريعا عندما صدر عنها علي غير تقاليد وعادات الجيش بيان يوم أول فبراير الذي يعد بكل المقاييس إعلان الجيش الحرب علي قائده الأعلي ووقوفه مع الشعب. فلم يتضمن البيان كلمة عن حسني مبارك وإنما كانت عباراته تأكيدا واضحا لحق الشعب في حرية التعبير وفي مطالبه المشروعة. لكن كان الأوضح في البيان قوله إن وجود القوات المسلحة في الشارع المصري من أجلكم وحرصا علي أمنكم وسلامتكم. وقواتكم المسلحة لم ولن تلجأ الي استخدام القوة ضد هذا الشعب العظيم الذي لم يبخل علي دعمها في جميع مراحل تاريخه المجيد. معركة الجمل رد علي الجيش ونتيجة لبيان القوات المسلحة يوم أول فبراير كانت في اليوم التالي مباشرة(2 فبراير) معركة الجمل الشهيرة التي كان من بين أهدافها محاولة الذين يدافعون عن مصالحهم في ظل استمرار النظام تأكيد وجود رأي شعبي يساند مبارك ضد الذين اتخذوا من ميدان التحرير قاعدة ارتكاز, لكن الأخطر أن معركة الجمل كما فهمها القادة العسكريون كانت تهدف الي دفع قوات الجيش الي التدخل. وحسب توضيح أحد أعضاء المجلس الأعلي في لقاء خاص فإن يوم معركة الجمل كان أصعب وأحرج يوم واجهته القوات المسلحة. فقد كان منطقيا فور وقوع التصادم أن يتدخل الجيش الموجود في الميدان ويقف الي جانب شباب التحرير ويدافع عنهم ويهاجم الذين يعتدون عليه, وهذا بالضبط ما كان يخطط له الذين رتبوا مؤامرة موقعة الجمل التي جاءت بعد يوم واحد من بيان قيادة القوات المسلحة. ذلك أن تدخل الجيش حتي لو كان ضد مؤيدي النظام وهم بالقطع فصيل من الشعب يعني أن الجيش في ثاني يوم لبيانه الذي تعهد فيه بعدم استعمال العنف مع الشعب قد خرق ما تعهد به, يضاف إلي ذلك أنه لم يكن ممكنا وسط حالة الخلط التي سادت الميدان فرز المعارضين من المؤيدين, فالاثنان يرتديان ملابس واحدة. وعلي عكس الأسلحة التي تستخدمها الشرطة وإصاباتها الفردية والمحدودة فإن بندقية جندي الجيش الآلية يمكن إذا أطلقها أن تسقط العشرات دون تفرقة, وحتي لو قام الجيش باستخدام النيران في الهواء علي سبيل التخويف, فإن حجم النيران التي سيطلقها في الهواء سيكون لها رد فعل بالغ القوة في التخويف يؤدي إلي تدافع تلقائي للمتظاهرين في الميدان والطرق المؤدية إليه يمكن بل حتما سيؤدي إلي ضحايا يسقطون تحت الأقدام قد يفوق عددهم ضحايا إطلاق النار عليهم, ولن يستبعد أن يخرج مبارك ويطلب التحقيق مع الذين ارتكبوا هذا العمل ومحاكمتهم بل وإعدامهم فورا. المزيد من أعمدة صلاح منتصر