بينما كان عام الثورة يلملم أوراقه ليرحل مفسحا مكانه للعام الجديد, كان مؤتمر أدباء مصر الذي نظمته الهيئة العامة لقصور الثقافة بمسرح الأوبرا يفتح أوراقه تحت عنوان: سقوط نص الاستبداد الثقافة والثورة, ومن بين هذه الأوراق برزت بعض تجليات الفساد في المشهد الثقافي قبل الثورة متلازمة مع تجليات الاستبداد. واختيار منظمي المؤتمر لهذا العنوان ينبع من قناعة بأن تنامي ثنائية الاستبداد والفساد تعبير عن ثقافة كرست لها النظم الاستبدادية طويلا, مستعينة بتفسير خاطيء للإسلام تجاه الحاكم أو ولي الأمر, ومعتمدة علي الطبيعة السمحة للمصريين التي تميل نحو المسالمة والمهادنة والاحتساب الي الله نعم الوكيل في كل ما يصيبهم من ظلم, لكن الشعب بثورته في25 يناير أثبت أنه يملك تحت هذه الثقافة التي بدت وكأنها من الثوابت طاقة إيمانية بالحق والعدل والحرية والكرامة, كانت كامنة تحت جلده ووسط ركام ثقافة السلطة, وحينما سقط جدار الخوف تفجرت تلك الطاقة كالطوفان تجرف أمامها تلك الثوابت السلبية, وتؤسس ثقافة جديدة للمواجهة والمقاومة والمبادرة, كما تمهد الطريق نحو الاحتكام إلي المباديء المطلقة العليا للحق والعدل برؤية نقدية بناءة. إنه نص جديد في تاريخ الثورات يقابل نص الخنوع والاستسلام والتعايش مع الاستبداد والفساد, الذي سقط في يناير 2011, ويشكل عنصراه ثنائية لا تنفصم كوجهين لعملة واحدة, أو علي حد تعبير الأديب قاسم مسعد عليوة في بحثه العميق المقدم للمؤتمر, هما الناسل والمنسول!.. ولقد استطاع نص الثورة أن يمحو الصورة الذهنية للشعب المصري التي رسمها بعض المحللين بأن أغلبيته انتهت الي التسليم بوجود تلك الثنائية كقدر مكتوب لا مفر منه, بل ذهب هؤلاء الي أن نص الاستبداد في مصر نص أزلي منذ آلاف السنين, مرجعه الي العوامل الطبيعية والجغرافية الملائمة لنموه, فقد جعلت هذه العوامل من مصر دولة نهرية مركزية عضدتها العقيدة الدينية, حيث هيمن الكهنة علي مؤسسة الفرعون حتي صارا كيانا واحدا يشكل حاضنة للاستبداد والفساد معا, وذهب هذا البعض إلي أن تلك الثنائية خلفت المقابل التاريخي لها في سيكولوجية الشعب, وهي الخنوع والاستسلام وطاعة الحاكم والرضا بالمقسوم, بكل مايشمله من الفقر والسخرة والاستغلال والمهانة والإذلال, دون أن يولوا اهتماما يذكر للعديد من الثورات والمواجهات الدامية ضد مؤسسات الحكم والفساد علي مر التاريخ, وقد تتراوح أسبابها بين التمرد علي الملوك, والتمرد علي الحكم الأجنبي, والدفاع عن العقيدة, والدفاع عن الأرض والعرض, والانتفاض ضد الظلم بكل أشكاله. وفي ذات الوقت كان هناك صنف آخر من المثقفين والساسة يسخرون مواهبهم لتبرير وتحسين صورة الحاكم والدفاع عنه, فقد جعلوا مصالحهم الخاصة أساسا لانحيازهم للسلطة, بل يمكننا القول إن آبارهم قد تسممت بسموم السلطة فتوحدوا معها وصاروا من أدواتها, حتي بلغوا درجة الإبداع في صياغة نص الاستبداد كي يكون مقبولا ومستساغا لدي الشعب, عبر الصحف وأجهزة الإعلام ومنابر الرأي, بل حتي فوق منصات الجامعة والمسجد. إن نص الثورة الذي أسقط نص الاستبداد, هو فصل جديد في فقه طبائع الشعوب, وهو جدير بأن يتحول علي أيدي حكماء الأمة من كل الاتجاهات والتيارات الي عمود فقر ي لدستور البلاد حين يجري وضعه عما قريب, ليصبح مرجعية حاكمة تقف أمام أية محاولة للالتفاف علي إرادة الشعب أو سلب حقوقه أو المساس بكرامته أو تزييف وعيه للعودة الي الوراء, ولو باستخدام الدين وادعاء الحاكمية لله كغطاء لأطماع سياسية. وقد ألهم هذا النص الافتراضي لسقوط الاستبداد عددا من المثقفين لصياغة نص آخر هو الدستور الثقافي ليكون نظيرا لدستور البلاد وميثاق شرف للمثقفين, وملاذا يحمي قيم الثورة في ميدان الثقافة, ويرسخ معاني الهوية المصرية في عمقها التاريخي السابق واللاحق للفتح الاسلامي لمصر, كما يرسخ معاني الحرية في عمقها الانساني بما تكفله من حقوق المواطنة والتعبير والتفكير والاعتقاد والنشر, بغير كبح أو أو رقابة أو إقصاء, كذلك يرسخ معاني مسئولية المثقفين والمبدعين تجاه مجتمعهم وضميرهم وتجاه الإنسانية, وأخيرا يرسخ معاني وحدود مسئولية الدولة ومؤسساتها الثقافية تجاه المجتمع, باعتبار أن الثقافة حق أصيل لكل مواطن, كالغذاء والتعليم والعلاج والسكن, وأن توفيرها واجب علي الدولة لا يقل عن واجبها بالنسبة لتلك الضرورات, هذا الواجب الذي تقاعست عنه كافة الحكومات المصرية, حتي جعلت من استحقاقات الثقافة والمثقفين هامشا ضئيلا علي خططها وميزانياتها, بما في ذلك حكومات عهد مابعد ثورة يناير 2011!.. لذلك يدعو واضعو وثيقة الدستور الثقافي الي تضمين دستور الدولة أهم بنوده, لنقطع خط الرجعة أمام اية محاولة للردة الثقافية باسم الدين أو بأية ذريعة أخري, تبرر للفاشية التي بدأت تظهر لنا ملامحها بالفعل. المزيد من مقالات عزالدين نجيب