فى معنى الدولة ومعنى المثقف دَبّجَ كثرة من مثقفينا عشرات «النظريات» التى ربما تكفى لمصادرة المستقبل حتى قيام الساعة. لم يكن الخطل الوحيد يتحصل فى انتهاء تلك التصورات حول مستقبل الثقافة إلى مضامين طبقية شديدة البؤس، بل كان أخطرها ذلك الفصل المستمر والمتنامى بين ما يسميه «تيرى إيجلتون» ب «الثقافة العليا» فى مقابل «الثقافة الشعبية». صحيح أن التجليات العميقة للمعنيين تبدو أشمل من مفهوم الطبقية، لكن هذا الصراع فى الثقافة المصرية لم يأخذ من المعنى إلا أكثر مضامينه سوءا. وهى إشكالية لم يمسها أحد من المعنيين بعلم اجتماع الأدب أو سيسيولوجيا الثقافة باستثناء المفكر السياسى نبيل عبد الفتاح الذى كرس لها عدة مقالات شديدة الخطر والأهمية نُشِرت على ذات الصفحة التى أتحدث منها. وأنا هنا أسجل انطباعاتى كشاعر لا يدعى امتلاك أدوات الباحث وإن امتلك حُرقَة الخائف المرتاب فى صورة الثقافة ومثقفها بعد ثورتين كبيرتين. فتغييب «المثال» فى ثقافتنا على مدى أكثر من أربعين عاما دفع الشعبيين لصناعة مثالهم وأنبيائهم وآلهتهم واصطفاء رموز من بينهم، وما كل مدارس الفقه التكفيري، متعددة الآلهة والمرجعيات، سوى واحدة من تلك التجليات. الشعبيون وحدهم دفعوا ثمن الثقة التى يمنحها العامة لنخبة خائنة. وليست الثقافة المصرية فى ذلك مثالا فريدا. فالأحلاف العسكرية لديها مثقفوها، وأجهزة المخابرات، ومؤسسات الحكم ، ورجال المال والسلاح يملكون أيضا مثقفين قادرين دائما على استنبات الورود من شواهد القبور. الدهشة هنا لا تعنى إدراكا متأخرا لحجم الخيبة، قدر كونها تعنى أن شيئا لم يتغير، رغم أن التغيير كان ولا يزال مطلبا شعبيا منح السلطة الجديدة أنبل مواثيق الحماية. ولأن الهاجس العميق خلف هذه الكتابة هو صورة ذلك اللقاء الذى رتبته جهات لا نعرفها لعدد من المثقفين الذين التقوا رئيس الجمهورية، وهو ربما اللقاء الثالث منذ تولى الرئاسة الجديدة سدة الحكم، فمن المهم تأكيد أن النقاش لا يتعلق بالأسماء المشاركة قدر تعلقه بمدلول المقابلة ومحتواها دون التطرق إلى أقدار وتوجهات ممثليها، ولا أستثنى من حديثى سوى شابين اثنين من ممثلى الكتابة الجديدة حضرا ذلك اللقاء، وبدا حضورهما كأنه زهرة تدارى فوهة مقبرة. فغالبية الحضور من أبرز ممثلى الأنساق السلطوية على مدى أكثر من خمسين سنة، وهى أنساق لم يقلقها أبدا أن ترى المكون الثقافى يعمل لصالح منظومات «ضد بشرية» إن صحت التسمية. فعلى مرأى ومسمع منهم ظلت اقتصاديات الدولة مرتهنة لرأسمالية فجة، الحريات ظلت فأرا فى مختبر يمكن الفتك به فى أى لحظة تحت وطأة التجربة، العدالة هاربة إلى مأوى أكثر أمنا، والعامة يستغيثون فلا يُغاثون. فالمثقف الذى كان يجب أن يكون صوتا لهم أصبح سوطا عليهم. وأتذكر هنا أن أحد التعريفات الطريفة التى قدمها «إليوت» للثقافة أنها: «الكُرُنب المسلوق، موسيقى الشعب ، الموانئ ، حارات ومدقات الأجداد، دورات الألعاب الرياضية». والمعنى هنا أن تعريفات الثقافة لا تبقى صفوية سوى عند النخبة التى تحافظ دائما على تعاليها بحيث تظل مفصولة عن محيطها الشعبي. لذلك أتصور أن الدولة الجديدة، ونحن معها، فى أمس الحاجة إلى تجاوز الحديث عن اختصار المعركة القادمة فى المواجهة مع تيارات الإظلام وحكايات السلف إلى البحث فى الكيفية التى يصنع بها المجتمع مثاله وقدوته عبر نخبة لم تحقنها مضادات العزلة. من هنا أتصور أن المعركة الحقيقية لمصر الجديدة ترتبط بقدرتها على جسر الهوة بين ما يسمى بالثقافة العليا وبين الثقافة الشعبية. لكن ذلك، على الأرجح ،لن ينهض به مثقفو السلطة القديمة الذين نراهم فى غدونا ورواحنا يقبضون على ناصية القول والفعل فى آن واحد. فهذا النموذج ظل يناضل للالتحاق بالثقافة العليا ، لكنه فى الطريق إلى ذلك ارتكب أخطاءه التاريخية باحتقار طبقته والانسلاخ عنها فبدا بتعبير جرا مشى «هاربا طبقيا»، وكان الشاعر والناقد «ماثيو أرنولد» يطلق على هؤلاء : «أصحاب الِرفْعَة المسروقة». لا أتحدث هنا عن الخطب الرنانة التى يلوكها هؤلاء، فهم أصحاب لغة ساحرة لكنهم أصحاب مواقف غائرة، وهو الأمر الذى بدد من الذهنية العامة فكرة المثقف النقدى غير القابل للاستلاب. ومن الناحية الموضوعية فإن الثقافة العليا وأصحابها يقدمون أنفسهم باعتبارهم نموذجا للثقافة الأخلاقية وهى رؤية رجعية بطبيعتها، من هنا سيظل حديثها المُدَاجى للحرية والعدالة والتقدم محض هراء، لذلك أتصور أن الحكم الجديد يبدو كَشَاةٍ تسير فى حماية الذئاب. ولا أشك فى أن الرئاسة الجديدة تملك رؤية للمستقبل وأنها جادة فى التغيير لكنها لم تسلك الطريق الصحيحة إلى ذلك حتى الآن. ومن المهم هنا أن يعلم السيد الرئيس أن ما حدث من فساد فى كل مفاصل الدولة كان صعب الأثر فى الثقافة، وأن تهميش القطاعات الشعبية العريضة قابله تهميش قطاعات واسعة من مثقفين نوعيين ووطنيين طالما تعلمنا منهم، بالإضافة إلى قطاعات من الأجيال الجديدة التى تنتظر تغييرا موضوعيا يؤدى إلى دمجها ضمن أطر أكثر عدلا وأخلاقية. وسيظل مدهشا تكرار ذات الوجوه وتكرار ذات الأدوار. فكيف استساغ من قام على الاختيار استبعاد أسماء مثل: صنع الله إبراهيم، بهاء طاهر، عاصم الدسوقى، حسن حنفى، محمود إسماعيل ، مراد وهبة ، محمد عنانى وغيرهم عشرات. إن الغالبية من حضور لقاء الرئيس هم من الداعمين الأساسيين لإبقاء أوضاع الثقافة على ما هى عليه، فهم يدركون أن المعنى الجوهرى للتغيير هو أن تطالهم الإزاحة. إن هؤلاء من مثقفى «السياجات المغلقة» حسب تعبير «تيرى إيجلتون»، لا يصلحون عنوانا للدولة الجديدة .ويظل السؤال الأجدى بالإجابة فى لحظتنا هو كيف نعيد اللحمة بين ما يسمى بالثقافة العليا والثقافة الشعبية باعتبارهما عنصرى الصعود المجتمعى ولُحْمَتُه. فإذا كانت الثقافة العليا قد اختارت العزلة فغابت عن التأثير؛ فقد اختارت الثقافة الشعبية الذهاب إلى مصير جائر فقدت فيه الكثير من العقل كما فقدت فيه الكثير من الإيمان بتلك النخبة التى خانتها ولاتزال . لمزيد من مقالات محمود قرنى