كان آداء الرجل مخيباً للآمال على نحو كامل. أما الرجل فهو أستاذ الحديث الأزهرى الذى جاءوا به على شاشة التليفزيون ليرد شبهات ويزيل شكوكاً بدأت تتناثر حول أحاديث البخاري. ولكن الرجل لم يفلح - لسوء الحظ - فى رفع شكٍ أو رد شبهة، بقدر ما ترك للناس المزيد من دواعى الحيرة والاضطراب. وقد ارتبط ذلك بحقيقة أن الرجل لا يتقبَّل فكرة أن يكون حديث البخارى موضوعاً لشكٍ أو شبهة، ولهذا فإنه لم يكن ليشغل نفسه بما لا يتقبَّله أصلاً، بل كان شاغله الرئيس هو تثبيت سلطة البخاري؛ على النحو ينأى بها عن إمكان المنازعة أو التحدي. وضمن سياق هذا الانشغال فإنه اختار أن يكون القرآن هو آداته فى تثبيت تلك السلطة؛ وبمعنى أنه راح يؤسس سلطة صحيح البخارى على إقامة ضربٍ من التماثل الكامل بينه وبين القرآن؛ وبحيث ينبغى الإقرار للصحيح بما جرى الإقرار به للقرآن، كما يلزم أن يُدفع عنه ما يُدفع عن القرآن سواءاً بسواء. وهكذا فإنه قد جعل الشبهة المثارة حول صحيح البخاري، هى مما يُثار حول القرآن بدوره؛ وبما يؤول إلى أن دفعها عن القرآن لابد أن يؤدى إلى دفعها عن الجامع الصحيح أيضاً. وترتيباً على تلك القاعدة، فإنه إذا كانت الشبهة المُثارة حول صحيح البخارى تتمثل فيما يُقال من تناقض بعض أحاديثه، فإن الرجل يدفعها بالقول بأن القرآن ينطوى بدوره على بعض الآيات التى تتناقض الواحدة منها مع الأخري. ويرتب على ذلك طبعاً أنه إذا كان التناقض بين بعض آيات القرآن لا يمنع المسلم من الإيمان به مطلقاً، فإنه يلزم - ابتداء من تماثله الكامل مع البخارى - أن يكون للمسلم نفس الموقف من «الجامع الصحيح»؛ وبمعنى ألا يمنعه التناقض بين بعض أحاديثه من الإيمان به مطلقاً. وبصرف النظر عن أن الرجل يرفع البخاري، هكذا، إلى مقام من يتساوى كتابه «الجامع» مع كتاب الله؛ وبما يخايل به ذلك من التعالى بالبشرى إلى مقام الإلهي، فإن للمرء أن يتساءل عما إذا كان ممكناً التعامل مع التناقض بين بعض الأحاديث بنفس الآلية التى تعامل بها الأصوليون مع التناقض بين بعض آيات القرآن؛ والتى هى آلية الناسخ والمنسوخ. فقد بدا للأصوليين أنه لا سبيل لرفع التناقض البادى بين بعض آيات القرآن إلا من خلال افتراض أن واحدة من تلك الآيات تكون قد نزلت لاحقةً على أخرى سابقةٍ لها؛ وعلى النحو الذى تكون فيه تلك الآية اللاحقة رافعةً أو ناسخةً لحكم الآية السابقة، ومقررة حكماً مناقضاً له. وبالرغم من الإقرار بوقوع الناسخ والمنسوخ فى الحديث بدوره، فإن ابن خلدون قد أورد عن ابن شهاب الزهرى قوله: «لقد أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من منسوخه، وكان للشافعى رضى الله عنه فيه قدم راسخة». وقبل بيان السبب فى العجز الذى يشير إليه الزهري، فإنه يلزم التنويه بالطابع الإشكالى لمسألة الناسخ والمنسوخ حتى بخصوص القرآن نفسه؛ والذى ينشأ من عدم تفعيل القواعد التى أقرها الأصوليون بأنفسهم فى هذا الباب. فإذ يقرون - بحسب ما أورد السيوطي- بوجوب أن يكون «المرجع فى النسخ هو النقل الصريح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أو عن صحابى يقول: آية كذا نسخت آية كذا...، وأنه لا يُعتَمد فيه قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقلٍ صحيح، ولا معارضة بيِّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكمٍ وإثبات حكمٍ تقرر فى عهده (صلى الله عليه وسلم)، والمُعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأى والاجتهاد»، فإن منهم «من تساهل واكتفى فيه بقول مفسر أو مجتهد». وليس من شكٍ فى أن هذا التساهل الذى جعل البعض يكتفى فى النسخ بقول المفسر أو المجتهد؛ وبما يعنيه ذلك من أن رفع حكمٍ وإثبات حكمٍ آخر مناقضٍ له يكون من عملهما(أى المفسر والمجتهد)، إنما ينشأ عن عدم وجود النقل الصحيح الذى تتعذر معارضته. وإذ الأمر هكذا بخصوص الناسخ والمنسوخ فى القرآن، فإن الطابع الإشكالى يتزايد فى حال ناسخ الحديث ومنسوخه. فإذ يلزم أن يكون النقل الصحيح عن النبى أو الصحابى هو المرجع فى معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه، فإنه لا وجود أبداً لمثل هذا النقل الذى يقرر أن حديث كذا قد نسخ حديث كذا سواء عن النبى أو الصحابي. بل ثمة الأحاديث المتعارضة منقولة من طريق الصحابة من دون أن يقرر أحدهم أن الحديث الذى ينقله ناسخٌ لحديث الآخر. إذ لا حجة منقولة - والحال كذلك - فى تقرير أن حديثاً بعينه يكون ناسخاً لحديثٍ آخر، فإن ذلك قد جعل للفقيه القدم الراسخة فى تعيين ناسخ الحديث ومنسوخه؛ بحسب نوع الحكم المُراد تثبيته. وبالطبع فإن ذلك يجعله خاضعاً لسلطة الفقيه. وعلى فرض إمكان التساهل وإرجاع تعيين ناسخ الحديث ومنسوخه إلى رأى الفقيه، فإن إشكال الأحاديث المتناقضة يظل قائماً. فإنه إذا كانت القاعدة تقول - حسب السيوطي - أنه «لا يقع النسخ إلا فى الأمر والنهي، أما الخبر الذى ليس بمعنى الطلب، فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد، وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل فى كتب النسخ كثيراً من آيات الأخبار والوعد والوعيد»، فإن ذلك يعنى وقوع النسخ فى أحاديث الأمر والنهى فقط. وأما أحاديث الإخبار فإنها لا يدخلها النسخ أبداً. وحين يدرك المرء أن معظم ما يُشار من الأحاديث المتناقضة هو من أحاديث الإخبار، فإن ذلك يعنى أنها ليست موضوعاً للنسخ؛ وبما يؤشر عليه ذلك من أن التناقض بينها سيظل قائماً، وبحيث لا يكون من سبيل إلا للجمع التجاورى بينها، والذى هو آلية أشعرية تتيح الجمع بين المتناقضات. لمزيد من مقالات د.على مبروك