على الرغم من مرور ستة عشر عاما على رحيل إمام الدعاة فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، فإن محراب الدعوة لا يزال يبحث عن نموذجه الفريد، الذى غزا قلوب وعقول كل من سمعه أو رآه، رحل الشيخ الشعراوى عن دنيانا فى السابع عشر من عام 1998 ميلادية، بعد ان ترك تراثا هائلا من العلوم التى أفاض الله عليه بها. فمنها يهتدى العاصى ويستريح الحيران، ويهدأ الثائر، ويروى الظمآن، يصدق فيه قول القائل: عاش أقوام وهم فى الناس أموات، ومات أقوام وهم فى الناس أحياء، فلا تزال كلماته وخواطره حول تفسير كتاب الله تعالى تعيش فى قلوبنا، نتلهف على سماع صوته عبر تسجيلاته الاذاعية والتليفزيونية، وهو يجول بخواطره ويتنقل ويرتقى من معنى الى معنى دون تكلف ولا تقعر، شارحا ومفسرا لأعظم كتاب فى الوجود. الشيخ محمد متولى الشعراوى كما يقول الدكتور على جمعة مفتى الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء كان رجل القرآن وأحد المفسرين الكبار وهو عالم ربانى، وذواقة ايمانى وأحد المربين الذين نوروا القلوب بعلم الاسلام، موضحا ان الشعراوى كان علما من أعلام الامة، وكوكبا من كواكب الهداية فى سمائها، عاش عمره فى خدمة العلم والقرآن والاسلام وترك وراءه علما زاخرا لكتاب الله تعالى. وأضاف المفتي السابق ان امام الدعاة الى الله تعالى، كان ممن حباهم الله فهم القرآن ورزقهم معرفة اسراره واعماقه، وله فيه لطائف ولمحات واشارات ونظرات، استطاع ان يؤثر فى المجتمع، وكانت له نزعة ايمانية قوية، وآراء معينة فى الفقه وفى غيره لايوافقه عليها الآخرون، ولكن مهما اختلف الناس مع الشيخ الشعراوى، فلا يمكن ان يختلفوا فى قيمته وقدره ودوره فى الدعوة الى الله والى الاسلام. من أهل البصيرة واعتبر الدكتور محمد مهنا الاستاذ بجامعة الأزهر، الشيخ الشعراوى- رحمه الله- النموذج الحقيقى للداعية الوسطى المستنير المدرك لواقع عصره دون افراط او تفريط فى ثوابت الدين، وذلك لأن الدعوة لها مفهوم عميق، نفتقده بشدة فى هذا الزمان، ولقد قال الله تعالى فى كتابه الكريم«قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين«. وقال مهنا إن الدعوة الحقة لا تكون الا لأهل البصيرة، فكما يقولون ان البصر ناظر العقل والبصيرة ناظر القلب، اذ لابد ان يكون الداعية الى الله تعالى من اهل القلوب واهل العلم بالله الذين يفهمون عنه، وهذا النموذج من الدعاة تمثل فى فضيلة العالم الربانى الشيخ الشعراوى رحمه الله. واشار الى ان ما نراه حاليا فى زماننا تحت مسمى الدعوة ليس إلا تبليغا، لأنه لا يشترط فى التبليغ مستوى معين من العلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم«بلغوا عنى ولو آية«، وقال فى حديث آخر«نضر الله وجه امرئ سمع مقالتى فوعاها فبلغها كما سمعها فرب مبلغ اوعى من سامع«، موضحا ان الشيخ الشعراوى كان داعية، من أطباء القلوب والنفوس والعقول الذين ملأوا الارض علما وحكمة، فاهتدى على ايديهم العصاة، واقتفى اثرهم الصالحون. وحول كيفية استعادة نموذج الشيخ الشعراوى مرة اخرى فى محراب الدعوة، يقول الدكتور محمد مهنا، إنه لابد من العودة الى مفهوم تربية القدوة والسلوك والتربية للأئمة والدعاة والوعاظ من خلال مختلف الوسائل، لانه يوجد فرق كبير بين تعليم الامام او الداعية وتربيته، موضحا ان الداعية لابد ان يتسلح بوسائل متعددة حتى يواكب مستجدات عصره ولا ينفصم عنه، مشددا على ان تقوى الله تعالى وطاعته واتباع سنة وهدى المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاخلاص فى القول والعمل والسر والعلن، من اهم الاسلحة التى تعين الداعية على الوصول الى قلوب الناس، والتأثير فيهم بالايجاب، مبينا انه للاسف الشديد ان المجتمع الاسلامى يعانى بشدة مرض انفصام فى الشخصية الحضارية للانسان المسلم، مما ترتب عليه الضعف والوهن الذى يعيشه من يتصدى لمهام الدعوة فى الوقت الحالى. ظاهرة متميزة ومن جانبه يوضح الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء، ان الشيخ الشعراوى-رحمه الله- كان من الائمة القلائل الذين يظهرون على فترات متباعدة، فهو ظاهرة متميزة وليست متكررة لانه من العلماء الذين أنعم الله عليهم بعلم الموهبة، الذى هو منحة وفيض من الله تعالى يعطيه لمن يشاء من عباده الصالحين. وأشار الى انه ونحن نحتفل بذكرى رحيل الشيخ الشعراوى، علينا ألا نكتفى بذكر اقواله وآرائه فقط، فهى معلومة وموجودة كتابة وتسجيلا من خلال خواطره الايمانية حول تفسير آيات كتاب الله تعالى، موضحا ان تراث الشيخ الشعراوى مادام مثمرا بشهادة الجميع، فاننى أقترح على جميع المسئولين فى العالم الاسلامى، ان يخرجوا هذا التراث العظيم فى شكل مقررات دراسية تدرس فى كل مراحل التعليم المختلفة بدءا من الابتدائية والاعدادية والثانوية، ثم ختاما فى المرحلة الجامعية، حتى يعم النفع به، خاصة ان هذا التراث يساعد على نشر تعاليم الاسلام الوسطى السمح، لان قائله حظى بقبول لدى الناس جميعا فى داخل مصر وخارجها، ولمّ لا وهو امام الدعاة الى الله تعالى. وعن سر الحب الجماهيرى من الناس للشيخ محمد متولى الشعراوى، يقول الدكتور نبيل السمالوطى استاذ علم الاجتماع بجامعة الازهر، ان الشيخ الشعراوى-رحمه الله- كان من المجددين الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث «ان الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة امر دينها»، والمقصود من التجديد هنا، يعنى بيان صحيح الدين الاسلامى فى وسطيته وقيمه العليا وفيما يتضمنه من مكارم الاخلاق، وفى ابتعاده الكامل عن أشكال التطرف والعنف والارهاب، وقبوله لكل الناس مسلمين كانوا او غير مسلمين، لان الخلق عيال الله تعالى واقربهم الى الله احسنهم منهم الى عياله، كما جاء فى الحديث. ملكة التواصل واوضح ان الامام الشعراوى أبرز الكثير من جوانب الاعجازاللغوى والبيانى والبلاغى فى القرآن، وقد كان خبيرا فيه، بجانب الاعجاز الاجتماعى والاسرى والنفسى فى كيفية ادارة واجراء الحوار، كما جاء فى القرآن الكريم بين الله وملائكته وبين الله وانبيائه ورسله وبين الله والمؤمنين وبين الله والكافرين، حتى بين الله وابليس، وقد عرض هذه الانواع من الحوار فى شكل راق يسهم فى تعليم المستمعين آداب وفن الحوار، وهدف الحوار حتى يكون الحوار بناء ويتحقق منه الخير للجميع. واشار الى ان من أسباب الاقبال على الاستماع الى الشيخ الشعراوى، انه كان قريبا منهم، ويخاطبهم باللغة التى يفهمونها على جميع مستوى طبقات المجتمع المتعلم منهم والأمى، والكبير والصغير، وهذه القدرة الخارقة نطلق عليها ملكة التواصل مع الآخرين من جميع فئات المجتمع، موضحا ان هذه القدرة فيها جانب فطرى، مما يؤكد ان ليس كل من يدرس ويتعلم العلوم الشرعية، لديه القدرة على التواصل مع الآخرين، وعلى الاقناع والشرح والتفسير وعلى التأثير النفسى والعقلى والاجتماعى فى سلوك الآخرين، وهذا الجانب الفطرى كان متوافرا فى شخصية الشيخ الشعراوى. وايضا من اسباب الاقبال على فضيلة الشيخ الشعراوى، جانب الدراسات الشرعية المتعمقة، وهذا الجانب كان واضحا جليا فى تناول الشيخ الشعراوى لتفسير آيات كتاب الله تعالى وعرضها باسلوب فريد يؤكد ذلك، أما الجانب الثالث فهو حب الناس، فالانسان لا يتأثر إلا بمن يحب، وقد كان رحمه الله محبوبا من الجميع، منذ ان ظهر للناس فى برنامج »نور على نور« مع الاعلامى الراحل احمد فراج، والعجيب ان هذ الحب والتأثير فى الناس لا يزال موجودا حتى بعد رحيل الشيخ الشعراوى، مما يدل دلالة قاطعة على اخلاصه فيما أراد ان يقوله للناس، رحم الله الشيخ الشعراوى رحمة واسعة، وخلف الامة خيرا فى عقبه.