لم تَدَعْ المحكمةُ التى أدانت مبارك ونجليه الأسبوع الماضى أىَ مجال للاجتهاد إلى أنّ مِن أغراض حكمها لفت نظر مَن يحكم مصر مستقبلاً إلى أن يلتزم بأقصى ما يكون الالتزام فى ممارسة واجباته فى حماية المال العام، أى أنها أنجزت ما يزيد على إدانة آل مبارك إلى أن تضع قاعدة جديدة ينبغى التمسك بها مستقبلاً. فقد أعلنت بصريح العبارة فى حيثيات الحكم أنها يحدوها الأمل، وهى تشير إلى أن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية جديدة، إلى أن يكون ما ذكرته عن حق الحاكم وواجباته فى المال العام والحكم، هادياً ونبراساً ومُعيناً على الحكم وفقاً لأحكام الدستور وطبقاً لنصوص القانون، وذلك بعد أن ثَبُت للمحكمة، وقد استقر فى يقينها، واطمأن ضميرُها وارتاح وجدانُها، أن مبارك سوَّلت له نفسه أن يتعامل مع المال العام وكأنه من أملاكه الخاصة، وأنه استغل نفوذه وسلطات وظيفته فى طلب، والحصول، على منافع مادية وعينية دون وجه حق والاستيلاء وتسهيل الاستيلاء على مال الدولة، فصرف منه على نفسه وعلى نجليه، وحقق منافع خاصة لهم فى مبانيهم المملوكة لأشخاصهم بصيانتها وتجميلها وتأثيثها، وكل ذلك على أحدث وأفخم المستويات، ثم زوّر فواتير تُقرّ على عكس الحقيقة بأن الأموال المنصرفة كانت بغرض منشآت رئاسية عامة من أملاك الدولة! حيثيات الحكم وثيقة تاريخية تفحم من يتحدثون عن فشل الثورة، التى بفضلها أُجْبِر مبارك على التخلى عن سلطاته، وبفضل إصرار المتظاهرين اضطُر المسئولون بعد الثورة إلى إخضاعه للمحاكمة، وما كان لهذا الحكم أن يصدر إلا بعد أن قامت النيابة العامة بدورها، أيضاً بضغط من الثورة. وكان الإعجاز أن يجرى كل هذا دون سابقة فى تاريخ مصر، فى وقت كان أقصى ما تحلم به المعارضة قبل الثورة أن تضع مجرد ضوابط لعدم التمديد لمبارك ووقف التوريث لنجله، وأيضا بعد أن تأكد نجاح الثورة فى الإطاحة به وبحكمه، عَلَت الأصوات التى كانت تلغو عن الخروج الآمن! وكأن أصحابَها كانوا يتعمدون هدر إنجازات الثورة وتسفيه تضحيات أفضل أبناء مصر الذين دفعوا حياتهم والذين أوذوا فى أبدانهم وعافيتهم! والآن صار الحكم سابقة من المؤكد أن الشعب لن يتنازل عن استخدامها مستقبلاً، ليس فقط فيما يخص المال العام الذى كان موضوع هذا الحكم، ولكن فيما يتعلق بكل مسئوليات الرئيس، مما يضع الرؤساء الجدد لمصر فى وضع غير مسبوق، ولا يفلت أى رئيس فى المستقبل من الإحساس بهذا القيد إلا أن يكون شريفاً قاصدا الخدمة العامة ملتزماً بالدستور والقانون مترفعاً عن المكاسب الشخصية له أو لذويه ولصحبته. ومع صعوبة حصر مزايا هذا الحكم التاريخى فى مقال، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن المحكمة لم تفقد وضوح الرؤية ولم تخلط ما لا يجوز خلطه، فلم تخرج عن النظر فى تفاصيل الدعوى والاتهامات الموجهة للمتهمين الماثلين أمامها ومدى صحة الأدلة الثبوتية، ولم تلتفت إلى التلفيق المُتعمَّد من أبناء مبارك عن دوره البطولى فى الضربة الجوية، مما جعلها تتحرر من أى ضغوط تزيغ بصرها وهى تفصل الحق من الباطل، على أساس متين من إدراك القانون واستيعاب لحجم الجرم الذى يقترفه أكبر مسئول على قمة السلطة، كما أنها لم تترقق فى إحقاق الحق وفى تبيان الجرم بأوضح الألفاظ! هذه النقطة بالذات جديرة بالتأمل، لأن المحكمة هنا، وكأنها تتعمد أن تُذَكِّر من يبدو أنه ينسى، أن الاتهامات تختصّ بأفعال محددة تعلق بالمتهم، وأنه لا يعصمه من الإدانة، إذا ثبتت التهمة، أن يكون على أعلى درجات الالتزام فى واجباته الأخرى، حتى إذا كانت له إنجازات أخرى رائعة، بما يترتب عليه أنه على الدفاع أن يركز على الأدلة المقنِعة بالتبرئة من التهمة موضوع الدعوى، وليس أن ينفى إمكانية وقوعها لمجرد أن المتهم الماثل له إنجازات مشهودة فى سابق أعماله! لم تَستثنِ المحكمة مبارك ولم تقبل له شفاعة فى دوره غير المنكور فى حرب أكتوبر، بما يعنى أنه ينبغى ألا يُستثنى أىُ متهم فى دعوى ما مهما كان دوره حاسماً فى مجالات أخرى، حتى لو كان فى إنجاح 25 يناير وفى مؤازرة 30 يونيو! وليس فيهم من يفوق إنجازه الضربة الجوية! ورغم وضوح هذه القواعد فى دولة القانون، إلا أننا كنا فى حاجة لمثل هذا الحكم ليكون لنا مرجعية وطنية من صُلب تجربتنا. ومن التوافقات الواعدة أن يحدث هذا فى وقت ندخل فيه مرحلة جديدة بانتخاب رئيس جديد وبرلمان جديد، مع أحلام تأخذ بالمصريين أن تنتقل بلادُهم إلى حال يليق بهم ويحترم التضحيات الجسام التى دفعوها بالدم من أجل أن يضعوا عقداً اجتماعياً جديداً بين الشعب والحاكم، بعد أن تهتك العقد القديم الذى كان فى أساسه مفروضاً على الشعب! ومن الغرائب أن هذا العقد الجائر على حقوق الشعب، والذى كان يُعطى للرئيس فوق ما يستحق من صلاحيات ونفوذ، قد ضاق عليه فما كان منه إلا أن انتهكه فى استهتار وجسارة واطمئنان إلى قدرته على الإفلات من المساءلة! بما يؤكد أن التهاون فى هدر الحقوق يترتب عليه المزيد من قهر الشعوب! وقد جاء هذا الحكم المستند على النصوص الدستورية والقانونية ليُعزّزها وينفخ فيها روح الحياة، ليعلم الجميع، مهما يعد وضع بعضهم، أن القانون فوق الجميع، وأن احترامه واجب وإلا وقع العِقاب! لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب