سالزبورج ليست مدينة، لكنها مقطوعة موسيقى يتبادل اهلها أدوار العازفين، ينتقلون من حركة الى أخرى عبر جسور صغيرة تربط بين زمنين في العزف ،لكل زمن منهما ايقاعه الذي لا يعتدي ابدا على الايقاع الضابط الذي صاغه للمدينة سيدها الاوحد الموسيقار الشهير فولفجانج اماديوس موتسارت الرمز الذي يفرض ظله على المدينة أكثر من أي بناء شاهق من أبنيتها العتيقة. تستطيع بضمير مطمئن وقلب يملأه الشغف أن تصف المشي في شوارعها بأنه خطوة باتجاه «الاناقة» ، فالمدينة تلمع ليل نهار، مثل «كارت بوستال» وأجمل ما فيها رغبة الامتثال للتاريخ، ويبدو نهر (سالزاخ) الذي يقسم المدينة الى نصفين ويرسم ملامحها تحت جبال الالب من فرط انسجامه مع أصابع موتسارت كقط نائم تحت أقدام ملك عجوز، واذا ما تحرك الليل ليغطي سقفها يفرطان معا في لعبة التثاؤب تأكيدا لألفة ممتدة. في النهار يتحول النهر الى حزام على خصر فاتنة ،فيما تبدو القباب البيضاءوالخضراء التي تتناثر صاعدة فوق تضاريس المدينة وهي تجاور كرات الثلج في شتائها مثل قطع الدانتيلا تزخرف ثوب عرس لا يريد التاريخ أن ينتهي أبدا والموسيقى هي الخياط الذي يطرز هذا الثوب على مهل . وكما تعتني أصابع شوبان بمدينة وارسو البولندية ، تتولى موسيقى موتسارت حراسة سالزبورج والترويح عنها كما تعطي لزائرها متعة السير فوق أوتار كمان لتصله بقلبها مباشرة بشرط ان يبدأ من شارع جيتر يدغاس ( Getreidegasse) أو النقطة السحرية التي تؤدي مباشرة الى بيت موتسارت وبفضل هذا الامتياز الذي يمثل حارسا لمنظومة قيم أكثر ما يحرس تاريخا معطلا فإن المحلات التجارية ذات الماركات العالمية فشلت في احتلاله بالكامل ، اذ لم تعتد على طابعه التراثي سواء بإظهار لافتاتها ذات الاضواء القاسية او مظاهر غواياتها وحافظت وفق تقاليد المدينة على قداسة الماضي وتآلفت تماما مع المحلات التي تعيش على بيع الهدايا التذكارية والملابس التنكرية ذات الطابع التراثي وظلت تحتفي بالشوكولاته ذات النكهة المميزة والتي تهيمن عليها صور موتسارت
الزمن غير العاطل واذا كانت المدن لاتعطي سحرها ببساطة فأن سالزبورج التي تسترد أنفاسها بالكامل بين شهري ابريل واكتوبر ليست عصية على الفهم ، فهي تعطي مفاتيح فتنتها من شكل الجبل فوقها وقباب الكنائس الموزعة كحبات التفاح الأخضر لتشير الى ايمانها المفرط بعمارة الباروك ، الايمان الذي يسهل الاستدلال عليه مع زيارة كاتدرائية سالزبورج التي تقول« ويبكيبديا» انها الأكثر أهمية في الهندسة المعمارية الكنسية في المدينة. تتمثل بواجهة رائعة وقبة عظيمة. بنيت الكاتدرائية الأولى في عام 767 م، في عهد الإمبراطورية الرومانية، لكن موقعها من التاريخ تغير لان موتسارت صاغ لها العديد من المقطوعات الكنائسية التي اضفت عليها مسحة اسطورية تجعلها قريبة من الله ويتأكد هذا الشعور خلال التجوال في «ساحة الريزدنس»التي تمتد الى جوار القصر الرئيسي في المدينةالقديمة وفيها تحظى الخيول والعربات الملكية بمكانة استثنائية اذ تفتخر سالزبورج بوجود 14 مدربا للفروسية يقفون في الساحة و يبدأون الجولات القصيرة أو الطويلة على العربات التي تجرها الخيول. حيث يمكن للزائر التطواف في الازقة الضيقة التي تبدو كشرايين حياة تصب دماؤها في القلب الذي تمثله الساحة ،التي تضم خمسة ميادين صغيرة متفرقة يؤدي كل منها لمسار مختلف ، لكن النقطة الجامعة هي نافورة الباروك المزخرفة التي تعتبر أجمل نافورة في المدينة ، من حيث التصميم المعماري الذي يظهر أربعة خيول حول حوض المياه الرئيسي الى جانب ثلاثة دلافين، وهذه الساحة شعبية من وجهة نظر مرتاديها و تتسع لممارسة كل شيء بداية من الرياضة وصولا لحفلات الموسيقى وطقوس الحب في حين يبدو القصر الرئيس ذاته أقرب ما يكون لمتحف أثاث يحتفي بطرز نادرة تعكس حالة الرفاهية التي عاشتها المدينة خلال مجدها الامبراطوري ، لكن المال وحده لا يفسر الجمال ، فالاتقان حاضر في التفاصيل و الايدي الذكية التي تدلل الاسطح والجدران تمنح المقاعد التي تصطف صامتة حيوات جديدة ،فهي واقفة للشهادة على زمن ليس عاطلا عن العمل ، حيث تعطي مجموعة المتاحف في قلب المدينة النابض دليلا على مفهوم التاريخ الحي وقيمة التراكم الحضارى ،فلاشيء هنا يفشل في اثبات نسبه، فاليونسكو وضعت كل شيء في المدينة على قوائمها للتراث العالمي اعتبارا من العام 1997 والشاهد ان الصعود لقلعة «Hohensalzburg»، التي شيدت في 1077 م يمثل طريقا مثاليا لمناجاة الله، لانك تقف بين حالين ، حال الصعود لسمواته والهبوط الى منحدرات تلال مكسوة بخضرة نضرة ، تقبل من جنة يسهل العثور عليها في الارض ، كأنها امتداد لارواح غادرت قلقها وتركته معلقا على اجفان كانت تراقب القلعة من اسفل وترى في صعودها فضاء للمتعة وادراك مكامن فتنة الطبيعة. في الماضي كانت القلعة أكبر حصن في أوروبا الوسطى. تتميز بغرف الأمراء من ذلك العصر وقد أصبح الوصول اليها سهلا بفضل عربات التليفريك التي تقطع الطريق من الساحة الى القلعة التي تمثل تاج المدينة في حوالي دقيقتين خاليتين من شهقات الخوف ، اذ تشق العربة الجبل بيسر لا يخلو من الرهبة فيما يمثل سطحها ساحة راحة فتناول فنجان قهوة قرب ابراجها يمثل فرصة لابد من اقتناصها للتصالح مع العالم. لا تعني الوقفة في المدينة القديمة المدينة الجديدة الواقفة بخجل على يسار نهر سالزاج غير موجودة ، لكنها تطل بخجل ، فوسط العاصمة يحفل بعدد من البنايات الجديدة التي فيها الكثير من الاعتداء على الصمت الذي يشيع في الارجاء ، صمت يمكن غفرانه بجولة تصالحية داخل «حدائق ميرابل»الشهيرة«Mirabell» التي تقع قرب البرلمان وتكسر سطوة الحداثة الاسمنتية. صممت عام 1690 م بواسطة «يوهان برنارد فيشر» وتم إعادة تشكيلها كليا في 1730 م. وتم تشييد نافورة «بيجاسوس» في عام 1913، وقد نحتت أربع مجموعات من التماثيل حولها وترمز إلى أربعة عناصر: النار والهواء والأرض والماء. وتم فتحها للجمهور من قبل الإمبراطور فرانز جوزيف الأول في عام 1854. ويقع مسرح «The Hedge»في الجزء الرئيسي من الحدائق التي تنتهي بمبنى جامعة موتسارت المخصصة لدراسة موسيقاه و الحديقة بحد ذاتها تمثل ربيعا كاملا وساحة تستغل في اقامة حفلات الزواج حيث يرتدي المدعويين الملابس التقليدية ويسيرون خلف فرق موسيقية في ممرات الحديقة التي تحظى بكم هائل من الشحاذين على النمط الاوروبي والذين يقفون بآلاتهم الموسيقية يغازلون الحياة ويصبون اللعنات على سوء الحظ النوافير العجيبة من يذهب لسالزبورج يحمل توصيات ممن زاروها قبله ، فقد نصحني صديق بألا اتركها دون المرور بقصر «Hellbrun» او قصر النوافير الخادعة»Wasserspiele»، كما تصفه « ويب كيبيديا « لكن زيارته تفوق الوصف فهو احد أروع مباني عصر النهضة ، لا يحتاج الوصول اليه لاكثر من 20 دقيقة من قلب المدينة، لكنه مثل كنز متروك قماشة من حرير أخضر، يقف بالوان جدرانه الصفراء كأنه زهر عباد شمس يشده الجمال الى الأعلى ، بينما النوافير التي تملأه وتمتد في خط افقي أشبه ما تكون بصناديق الدنيا في مخيلات الاطفال ،فهي دائما تفصح عن حكاية ، كلف الماء بروايتها بطريقة ساخرة ارادها «سيتيكوس ماركوس»، الذي بناها وهو رجل يتمتع بروح دعابة قوية ويسهل اكتشاف ذلك من الطريقة التي يفاجئك بها الماء خلال عبورك بحديقة القصر أو وقفتك لتأمله و تبقي المقاعد الحجرية حول طاولة الطعام واحدة من ابرز السمات البارزة لهذا القصر مثلها مثل المسرح الميكانيكي الذي تديره المياه منذ ان بني في 1750 ومن خلال تلك المقاعد تمر قناة بخاخة للماء إلى مقاعد الضيوف وعندما يتم تشغيلها يتحول كل زائري القصر الى راقصين في أوبرا بطلها الماء ويتأكد هذا الانطباع حين تصل بك جملة النهاية الى الطريق الذي سار فيها ابطال الفيلم الشهير «صوت الموسيقى» بطولة «جولي أندروز» و«كريستوفر بلامر» ، وتعبر من ذات الطريق الذي عبره ابطاله كأنما كانوا جملة بيانو لا تنقطع .