الوقوف فى صف أمام مركز الاقتراع....وورقة صغيرة وقلم جاف يضع بها علامة صح أمام اختياره.. هذا كل ما يتطلبه الأمر ليشعر المواطن العادى أنه يشارك فى صنع القرار وتحديد سياسة بلاده وربما «صناعة التاريخ» اذا كان الاستفتاء حول الاستقلال. ومع اجراء استفتاء القرم وانتظار اجراء استفتاءين آخرين فى الخريف المقبل فى اسكتلندا وكتالونيا يتجدد الجدل حول ايجابيات وسلبيات نظام الاستفتاء العام بوصفه أهم وسائل الديمقراطية المباشرة ويعاد طرح السؤال هل الاستفتاء وسيلة لتحقيق أهداف ديمقراطية أم مجرد مراوغة من جانب بعض الأنظمة غير الديمقراطية لتحقيق أهداف سياسية؟ والاستفتاء هو أخذ رأى المواطنين بصورة مباشرة فى قضية ما بالموافقة أو الرفض مما قد يؤدى إلى تبنى دستور جديد أو تعديلات دستورية أو قوانين جديدة، أو الاستقلال وهو ما سنركز عليه هنا . وقد أجرى أول استفتاء على الاستقلال فى عام 1861 فى ولايات تكساس وتينيسى وفرجينيا ورغم أن الناخبين صوتوا لصالح الانفصال إلا أنه لم يتم الاعتراف بالنتائج. وبعد هذا التاريخ شهد العالم العديد من استفتاءات الاستقلال والتى كانت تأتى فى صورة "موجات" فى بعض المراحل الفاصلة من تاريخ البشرية و كانت غالبا ما ترتبط بتغييرات جذرية فى الأنظمة السياسية الدولية ،وعجز القوى التى كانت تهيمن على تلك الدول عن السيطرة على مد النزعات القومية.ومن أبرز موجات الاستقلال: مرحلة التحرر من الاستعمار فى اعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية ،ومرحلة انفصال الجمهوريات فى التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفييتى السابق.وكان آخر استفتاء شهده العالم قبل استفتاء القرم هو الاقتراع على انفصال جنوب السودان فى عام 2011. والاستفتاءات مثلها مثل أى ممارسة ديمقراطية تنطوى على ايجابيات وسلبيات.ويرى مؤيدوها أنها الوسيلة المثلى لإعمال السيادة الشعبية من خلال الاحتكام المباشر للرأي العام.كما أن لها صفة الشرعية المطلقة بمعنى أن القرار الذى يوافق عليه أغلبية الشعب عادة ما يتم تقبل شرعيته دون جدال كبير حتى من قبل المعارضين الذين ربما لم يكونوا ليتقبلوا القرار لو تم اتخاذه من قبل الحكومة أو البرلمان. هذه النقاط الايجابية هى نفسها التى يرى فيها المعارضون بعض السلبيات حيث يرون أن الاستفتاءات من شأنها اضعاف البرلمان والحكومة .ويصف أحد المحللين الاستفتاء بأنه بمثابة"منح النفوذ والسلطة دون المسئوليات" بمعنى أنه يعطى الناخبين الفرصة لفرض رأيهم ،وربما تحدى النظام الحاكم، دون تحمل مسئولية العواقب. ويرى بعض المتشائمين أن الاستفتاء هو"استعادة لاستبداد الأكثرية واضطهاد الأقلية "التى طالما سعت الديمقراطيات الحديثة للقضاء عليه.ويحذر لورد نورتون أوف لوث الخبير الدستورى بجامعة هل البريطانية من أن الاستفتاءات عادة ما يتم استخدامها من قبل ألأنظمة الشمولية والديكتاتورية للحصول على الاجابة التى يريدونها مشيرا إلى أن هتلر وموسولينى كانا من أكثر الحكام الذين استخدموا تلك الوسيلة الديمقراطية لتحقيق مآربهما. وهناك أيضا مسألة الاقبال على التصويت فى الاستفتاء فان الاقبال الضعيف قد يشكك فى شرعية النتيجة حيث أنه لا يعد تعبيرا حقيقيا عن رغبة المواطنين. وعلى الرغم من أن مسالة الاقبال الضعيف قد لا تنطبق على استفتاء الاستقلال حيث عادة لا تقل عن الثمانين فى المائة إلا أن هذه النسبة الكبيرة عادة ما تخفى حقيقة أن كثيرا من استفتاءات الاستقلال تجرى وسط ظروف «غير مثالية» وفى دول لا تتمتع ب «سجل انتخابى مثير للاعجاب». وبجانب حجم الاقبال على التصويت هناك أيضا معضلة صياغة سؤال الاستفتاء. فكثيرا ما يأخذ على بعض الاستفتاءات انطواء صياغة السؤال أو الاسئلة الموجودة بها على نوع من التحريض المستتر باتجاه اجابة بعينها ومن ثم التأثير غير المباشر على اختيار الناخب.ففى ورقة استفتاء القرم على سبيل المثال جاء السؤالان كالتالى: هل تؤيد انضمام القرم إلى روسيا لتصبح جزءا من الاتحاد الروسى؟ هل تؤيد اعادة العمل بدستور 1992 ووضع القرم كجزء من أوكرانيا؟ ويرى المحللون أن السؤال الثانى فى الاستفتاء جاء متناقضا حيث أن دستور 1992 الذى تبنته أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ،ثم سرعان ما تخلت عنه، كان يمنح القرم حق الاستقلال، أى أن الناخبين كان يصوتون لصالح الاستقلال فى الحالتين! وفى الاستفتاء الذى سيجرى حول استقلال اسكتلندا فى سبتمبر المقبل كان السؤال المقترح هو : "هل تؤيد أن تصبح اسكتلندا دولة مستقلة؟" وقد أثارت كلمة "تؤيد" انتقادا حادا بوصفها محاولة من جانب الحكومة الاسكتلندية للتأثير على نتيجة الاستفتاء باستخدام "لغة ايجابية". وقد دفعت الانتقادات لجنة الانتخابات إلى اعادة صياغة السؤال ليصبح "هل يجب أن تصبح اسكتلندا دولة مستقلة؟". وفى نهاية الأمر ورغم كل التحفظات والمشاكل التى تتعلق بنظام الاستفتاء مما لا يجعله " كامل الأوصاف ديمقراطيا"إلا أنه لا يمكن انكار انه من أفضل وسائل المشاركة السياسية وأنه فى احيان كثيرة يصنع المعجزات ويحقق احلام البسطاء فى الحرية والاستقلال .