قالت قطعة الجليد وقد مسها أول شعاع من أشعة الشمس في مستهل الربيع ' أنا أحب, وأنا أذوب, وليس في الإمكان أن أحب, وأوجد معا: فإنه لابد من الاختيار بين أمرين: وجود بدون حب, وهذا هو الشتاء القارس الفظيع, أو حب بدون وجود, وذلك هو الموت في مطلع الربيع!' بهذه الكلمات التي أبدعها' أوستر وفسكي' يستهل زكريا إبراهيم كتابه' مشكلة الحب', وهي كلمات ربما تختصر في مضمونها ودلالاتها المعني الذي أراده زكريا إبراهيم في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفاته الأخري, فالحب ينطوي علي هذه المفارقة: الوجود والعدم, الحياة والموت, الأمل واليأس, الحرية والعبودية, المتعة والألم, الفرح والشجن.. ألخ. وبعد أن يستعرض إبراهيم اللغات المختلفة التي عبرت عن الحب مثل اللغة الشعرية الوجدانية, واللغة الاجتماعية, واللغة البيولوجية, واللغة الصوفية ينتهي إلي أن الحب يعلو فوق هذه اللغات جميعا, فليس الحب في شتي أشكاله مجرد متعة جنسية أو مجرد رغبة في التناسل, بل هو أولا وبالذات قهر لعزلتنا الأليمة وتحرر من الذاتية الضيقة وانتصار علي الأنانية وهذا ما يفسر هذا الشعور بالقشعريرة المقدسة التي تستولي علي قلب الانسان حينما يلتقي لأول مرة بتلك الذات المجهولة التي سوف تنتزعه من الاستسلام لأنانيته. والواقع أنه حين يحدث هذا التلاقي بيننا وبين موجود آخر, فإن من شأن هذا التلاقي أن يزلزل أركان وجودنا, فضلا عن أنه يثير فينا مشاعر متناقضة من القلق والجزع والغبطة والأمل والنشوة.. الخ. وكل منا لا ينس كيف كان لتجربة التلاقي في حياته هذا التأثير العميق, وكيف جاءت خبرته الأولي في الحب فأيقظته من سباته العميق, وفتحت أمامه أفاقا جديدة وجعلته يري العالم وكأنه يراه لأول مرة! ويؤكد إبراهيم أن الإشكال الأكبر في الحب هو أن نعرف علي وجه التحديد كيف يمكن لحرية ما أن تصبح موضوعا لحرية أخري. وهنا قد يذهب البعض أنه بمجرد أن تنكشف حرية ما لحرية أخري, فإنها تصبح بالنسبة إليها موضوع احترام, ولكن الاحترام هنا لا ينطوي إلا علي طابع سلبي, لأنه يفرض علي حريتنا بعض الحدود, ويدع للحرية الأخري كامل استقلالها دون أن يفتح أمامنا السبيل لبلوغ تلك الحرية, أو دون أن يسمح لنا بتحقيق أي تواصل حقيقي معها. إذن فالمرء لا يستطيع أن يحب بمعني حقيقي إلا عندما يحدث ضرب من التماس بين حريته وحرية الآخر, فلا تلبث حريته الخاصة أن تنطلق من إسارها لكي تجد في الحرية الأخري أداة لتحررها, لا واسطة لاستعبادها, وبهذا فإن زكريا ابراهيم يختلف عن' جان بول سارتر' الذي لا يجد حرجا في أن يعترف في كتابه' الوجود والعدم' بأن مفهومه عن الحب يتفق الي حد كبير مع وصف هيجل الشهير' لجدلية العبد والسيد' فما يريده السيد الهيجلي بالنسبة للعبد يريده المحب بالنسبة للمحبوب, وربما يكون الفارق الوحيد بين العلاقتين هو أن السيد عند هيجل يطالب بحرية العبد بصورة جانبية وضمنية بينما يريد المحب حرية المحبوب أولا وقبل كل شئ. ووفقا لهذا المعني يكون الحب صراعا ونزاعا بين حريتين كلاهما يريد التهام الآخر أو امتلاكه. الحب عند زكريا إبراهيم ليس استعبادا وليس صورة من صور الامتلاك وكأنما هو سيطرة أو غزو, الحب يتطلب شيئا أدق وأعمق من التملك, لأنه يريد موافقة الآخر المحبوب, ولا شك في أن الظفر بمثل هذه الموافقة أو القبول إنما يستلزم أن يهبنا المحبوب حبه بمطلق حريته, وقد تستطيع القوة أو السلطة أن تظفر بأي شئ اللهم إلا الحب, فإن الحب لا يقهر والمحبوب لا يؤخذ غلابا, ولعل هذا يظهر الفارق الكبير بين الحب الحقيقي من جهة والنزوة الجامحة أو الهوي الجارف من جهة أخري: فالأول منهما يحرص دائما علي أن يظفر باستجابة أو مبادلة, في حين ان الثاني منهما لا يهتم إلا بمنفعته الخاصة وغروره الذاتي, ولهذا فإن الحب يجدد فينا باستمرار هذه الرغبة في التحرر, بينما هو لا يستحيل بالنسبة إلينا إلي مجرد قيد, إلا حينما يكون قد مات بالفعل. وربما كان أعجب ما في الحب أنه جماع ما في الوجود من متناقضات, فالمحبون يميلون إلي العزلة, وينصرفون عن الناس وينأون عن العالم, ومع ذلك فإن الحب وحده هو الذي بمنحهم شارة الانتماء إلي العالم ويجعلهم يشعرون في أعماقهم بأنهم يحبون الناس جميعا وأنهم يعانقون الطبيعة ويستشعرون نبض وهمس الأشياء, والحب هو الشئ الوحيد في العالم الذي لا يمكن إحالته إلي مجرد أمر أو وصية, ومع ذلك فإن المرء قد يقدم علي أقسي التضحيات وأصعب الأعمال في سبيل من يحب. فالحب هو الذي يسمح لنا أن نحقق من الأفعال ما تعجز عن تحقيقه أقوي الإرادات. والمحبون قد يتوهمون بأن الواحد منهم قد خلق للآخر منذ الأزل ومع ذلك فإن حبهم يبدو وكأنه مجرد ثمرة لالتقاء عابر لعبت فيه الصدفة دور البطولة!. والمحبون قد يظنون بأنهم يدخلون بحبهم في عالم الأبدبة ومع ذلك فإن كل منهم يعرف أن لحبه تاريخا وأن هذا الحب يتغير ويتطور عبر الزمان. والمحبون يقسمون علي الولاء ويأخذون علي أنفسهم عهدا أبديا بالوفاء, ويصيحون مع' أرسطوا' قائلين' إن حبأ أمكن أن ينتهي لم يكن يوما حبا صادقا'. ولكنهم مع ذلك يحنثون بالعهد ويتقلبون مع الزمن وينسون هذا الحب! والمحبون ينشدون الاتحاد ويتوقون إلي الامتزاج التام, ويسعون إلي الامتلاك المطلق. ومع ذلك يعلمون بأن الحب لن يخلو من الصراع, وأن العلاقة بالآخر لابد وأن تقترن بالمواجهة والتحدي, وأن الارتباط السحري الذي يتم بين الأنا والأنت لن يحقق أبدا الامتلاك المطلق, فرابطة الحب السحرية التي تجعل من الموجودين موجودا واحدا ليس من شأنها أبدا أن تغلق الدائرة, بل سرعان ما تجئ الإرادة, إرادة الحياة لكي تحطم هذه القوقعة المغلقة, ومن هنا فإن المحبوبين لا يصبحان واحدا إلا لكي يصيرا من بعد ثلاثة, وكأن دائرة الحب لا يمكن أن تغلق أبدا!. إن في الحب شيئا من كل شئ: ففيه شئ من العقل, وفيه شئ من القلب, وفيه شئ من الجنون, وفيه شئ من الجسد, وفي فيه شئ من الفن, وإذن فإن الحب الحقيقي هو أشبه ما يكون بالأنسجام الرقيق بين الحاجات الحيوية والحاجات الوجدانية, أو ضرب من التوافق الخفي بين نداءات الجسد أو الحيوانية وبين نوازع الروح أو الحرية.. ولعل هذا هو السبب في أن الحب الحقيقي ينطوي دائما علي طابع إبداعي أو خلاق وكأن الإنسان لا يستطيع أن يحب دون أن يخلق شيئا خارجه وربما يكمن جمال الحب في أنه عملية خلق متبادل لموجودين مترابطين يشعر كل منهما بأنه في حاجة إلي الآخر لأنه يحبه. وهذا ما يجعل من تجربة الحب تجربة ضرورية في حياة كل فرد منا. ولما كان الحب تجربة إبداعية واستيعابية شاملة, لذلك فإن كل منا يستطيع أن يقول بكل ثقة:' أنا أحب إذن فأنا موجود'. لمزيد من مقالات د.حسن حماد