السياحة: 44 رحلة حج إلى جدة والمدينة حتى اليوم    حماس: إسرائيل لن ترى محتجزيها إلا بهذه الشروط    الزناري يواصل تدريباته التأهيلية في مران الزمالك    مصرع شخص صدمه قطار أثناء عبور مزلقان في قليوب    محاكاة لقبة الصخرة ومعبد الأقصر وطريق الكباش.. رئيس جامعة الأقصر يفتتح مشروعات تخرج طلاب ترميم الآثار    هل وصلت إيران للقنبلة النووية بالفعل؟    زيادة مخصصات الصحة والتعليم.. جذب الاستثمارات.. ودعم محدودى الدخل    فرنسا وإنجلترا تتصدران الترشيحات للفوز ب«يورو 2024»    محافظ دمياط تشهد افتتاح 6 مدارس بمركز فارسكور    حماس: الاحتلال يواصل اعتقال أكثر من 200 طفل يواجهون ظروف تعذيب قاسية    مهرجان جمعية الفيلم يحتفل بمئوية عبدالمنعم إبراهيم    فصائل فلسطينية: قصفنا بقذائف الهاون جنود وآليات الاحتلال المتوغلة بمحيط تل زعرب    الصحة توجه نصائح للحجاج لتجنب الإصابة بالأمراض    رئيس هيئة الدواء يشارك في ندوة «اعتماد المستحضرات الصيدلية» التي نظمتها الهيئة بالتعاون مع الشراء الموحد    نواب يمينيون حاولو عرقلة مؤتمر بالكنيست بشأن الاعتراف بدولة فلسطين    شقيق المواطن السعودي المفقود هتان شطا: «رفقاً بنا وبأمه وابنته»    "حكماء المسلمين" يُعرب عن قلقه بشأن تردِّي الأوضاع الإنسانية في السودان    إجلاء مئات المواطنين هربا من ثوران بركان جبل كانلاون في الفلبين    المؤتمر الطبي الأفريقي يناقش التجربة المصرية في زراعة الكبد    أرجوكي يا حكومة ده مينفعش.. رسالة قوية من عزة مصطفى بشأن زيادة ساعات انقطاع الكهرباء    خالد الجندي يوضح فضل العشر الأوائل من ذي الحجة (فيديو)    القائد العام للقوات المسلحة يفتتح أعمال التطوير لأحد مراكز التدريب بإدارة التعليم والتدريب المهنى للقوات المسلحة    حسام حسن: لم أكن أرغب في الأهلي وأرحب بالانتقال للزمالك    لاستكمال المنظومة الصحية.. جامعة سوهاج تتسلم أرض مستشفى الحروق    وزير الخارجية الإيطالي: لم نأذن باستخدام أسلحتنا خارج الأراضي الأوكرانية    رسميًا.. طرح شيري تيجو 7 موديل 2025 المجمعة في مصر (أسعار ومواصفات)    خالد الغندور يرد على اعتذار سيد عبدالحفيظ    المنتج محمد فوزى عن الراحل محمود عبد العزيز: كان صديقا عزيزا وغاليا ولن يعوض    الداخلية تواصل تفويج حجاج القرعة إلى المدينة المنورة وسط إشادات بالتنظيم (فيديو)    حتي الأن .. فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحصد 58.8 مليون جنيه إيرادات    لحسم الصفقة .. الأهلي يتفاوض مع مدافع الدحيل حول الراتب السنوي    فليك يضع شرط حاسم للموافقة على بيع دي يونج    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة مع نهاية تعاملات اليوم الثلاثاء    نيمار: فينيسيوس سيفوز بالكرة الذهبية هذا العام    عيد الأضحى 2024| ما الحكمة من مشروعية الأضحية؟    حكم صيام ثالث أيام عيد الأضحى.. محرم لهذا السبب    فرحات يشهد اجتماع مجلس الجامعات الأهلية بالعاصمة الإدارية الجديدة    التحفظ على المطرب أحمد جمال بعدما صدم شخص بسيارته بطريق الفيوم الصحراوى    ونش نقل أثاث.. محافظة الدقهلية تكشف أسباب انهيار عقار من 5 طوابق    طريقة عمل المبكبكة، لغداء شهي سريع التحضير    محافظ كفرالشيخ يتفقد أعمال تطوير وتوسعة شارع صلاح سالم    رئيس جامعة حلوان يفتتح معرض الطلاب الوافدين بكلية التربية الفنية    محمد علي يوضح صلاة التوبة وهي سنة مهجورة    مدير صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى نخل المركزي بوسط سيناء    «التعليم العالي»: التعاون بين البحث العلمي والقطاع الخاص ركيزة أساسية لتحقيق التقدم    ل أصحاب برج الجوزاء.. تعرف على الجانب المظلم للشخصية وطريقة التعامل معه    فيلم فاصل من اللحظات السعيدة يقترب من تحقيق 60 مليون جنيه بدور العرض    أول رد من الإفتاء على إعلانات ذبح الأضاحي والعقائق في دول إفريقية    «شعبة مواد البناء»: إعلان تشكيل حكومة جديدة أربك الأسواق.. ودفعنا لهذا القرار    تعليمات عاجلة من التعليم لطلاب الثانوية العامة 2024 (مستند)    "تموين الإسكندرية": توفير لحوم طازجة ومجمدة بالمجمعات الاستهلاكية استعدادا للعيد    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" يتابع سير العمل بالشيخ زايد و6 أكتوبر    بملابس الإحرام، تعليم الأطفال مبادئ الحج بمسجد العزيز بالله في بني سويف (صور)    26 مليون جنيه جحم الاتجار فى العملة بالسوق السوداء خلال 24 ساعة    مصرع شخص في حريق ب«معلف مواشي» بالقليوبية    إصابة 4 أشخاص في حادث سير بالمنيا    سيف جعفر: أتمنى تعاقد الزمالك مع الشيبي.. وشيكابالا من أفضل 3 أساطير في تاريخ النادي    أمير هشام: كولر يملك عرضين من السعودية وآخر من الإمارات والمدرب مستقر حتى الآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذ هيكل.. بردا وسلاما
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 09 - 2013

قلبي عليك يا خي من حرق قولة آي.. أعلم أدرك أعي أشعر أحس ألمس أقدر.. أتفهم بحور ألمك.. أتوحد معك في حزنك.. أتفاعل إلي آخر المدي لما جري لك.
أشاركك الأسي في عمق فاجعتك التي تطير الرشد, وتشتت العقل, وتدك هامات الرجال الجبال.. أستاذي.. سألتك يوما عن دموعك فقلت لي إنك بكيت مرتين.. الأولي يوم جنازة عبدالناصر لأنه كان صديقا قريبا جدا مني وسيبقي اعتقادي بأنه ليس فقط إنسانا عظيما وإنما تاريخ عظيم, والمرة الثانية: عند علمي بوفاة السادات في ليمان طرة وذلك في اليوم التالي لمقتله لأننا كنا معزولين داخل الأسوار عزلا كاملا عما يجري خارجها, وعندما صدرت التعليمات بإمكانية نقل الخبر إلينا أتانا مأمور السجن لينقل لنا نبأ الوفاة علي أنها نتيجة لأزمة قلبية فوجدتني لا أستطيع التحكم في دموعي.. ولابد أنها المرة الثالثة التي أبكتك الآن ولم تزل عيناك في الغربة تذرف دمعا لا جفاف له ولا مهرب منه عندما نقل إليك نبأ المحرقة. حريق كتبك.. حرقة ضياع كنوزك.. حصيلة الأيام والسنين واللقاءات والاقتراب والارتحال.. أول كتاب وأحدث كتاب. الركن القصي الذي أودعته آخر المقتنيات التي تزمع قراءتها.. طريقة تصنيفك واختياراتك في رفوف السياسة والتاريخ والأدب والشعر وخرائط الكون ومذكرات الخالدين, فالثقافة أحد مكونات عقلك, وعلي صفحات ذاكرتك من التراث الشعري العربي, دواوين ومعلقات توشي بأبياتها جفاف الرأي السياسي فتحوله بقدرة الشعر إنسانيا سمحا.. سطور في صفحات علمت عليها لتأصيل شرحك وفهرسة نهجك وتشفير ناقدك.. كلمات ليست كالكلمات.. أوراق ليست كمثلها أوراق.. كتب ليس لقيمتها ثمن.. مراجع وأصول ومذكرات ورسوم ووثائق وبيانات رسمت خريطة عقل بشري من نوع خاص استقاها من عصير ثمانية عشر ألف كتاب سكنت بتضاريسها وسهولها وجبالها وأوديتها وبحارها وتاريخها وناسها وتراثها خلايا فكر لا يهدأ.. جميعها احترقت.. حرقها الإخوان حقدا منك وكيدا فيك.. التوت جميع الأوراق بفعل النار, وتفحمت أطرافها ورءوسها وأنت قلوبها, وتداعت أغطيتها, وتهاوت عناوينها, وأصبح المشهد رمادا ماتت فيه سطور العقل فوق مذبحة الجهل.. أكلت ألسنة النار أصول ومراجع ووثائق كل من كتاب فلسفة الثورة لجمال عبدالناصر الذي كتبته له عام 1953, وكتاب العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط في 1958, وكتاب مذكرات إيدن السويس في 1960, وكتاب أزمة المثقفين عام1961 , وكتاب ما الذي جري في سوريا عام 1962, وكتاب يا صاحب الجلالة عام 1963, وكتاب خبايا السويس عام 1966, وكتاب الاستعمار لعبته الملك عام 1967, وكتاب نحن وأمريكا عام 1968, ووثائق وعشرات الكتب التي ترجمت إلي لغات الأرض ومنها خريف الغضب وحرب أكتوبر, ملفات السويس, سنوات الغليان, الانفجار, الزلزال السوفيتي, حرب الخليج, حدث في قرطاج... و..لقد أتي الحريق علي جميع الوثائق والجسور وويله من حريق!!.. هذا.. وقد أسفرت المعاينة التي أجراها محمد الشريف وكيل أول نيابة كرداسة لمكان حادث اقتحام مقر فيللا الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في قرية برقاش عن وجود آثار لتحطيم الفيللا بالكامل وسرقة محتوياتها ووجود آثار حريق مدمر بالمكتبة الخاصة بالكاتب وإتلاف ما فيها, وتبين من المعاينة حرق 18 ألف كتاب ومخطوطة ووثيقة نادرة, وحسبما ذكرت المصادر أن واقعة الحريق أتت يوم الأربعاء 14 أغسطس عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة بساعتين علي خلفية اجتماع نواب سابقين في لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشوري المنحل الثلاثاء في إحدي قاعات مسجد رابعة العدوية, حيث مقر اعتصام الجماعة ومؤيدي المعزول, والذين أعلنوا فيه ما سموه قائمة سوداء بأسماء الكتاب الذين دعموا الفض وضمت اسم الكاتب الكبير!
احترقت جميع الأوراق يا سيدي وكنت الذي تنصحنا بألا نلقي ورقة ولا نزدري سطرا, وتذكر عندما دخلت غرفة العمليات العسكرية بعد توقف العدوان الثلاثي فوجدتها مكدسة بالأوراق والبرقيات الهامة بعضها واقع علي الأرض عندما خرجت القيادة وتركتها, فجلست بملابسك علي الأرض تجمعها بعناية فائقة ليسألك عبدالناصر: ماذا تفعل بتلك القصاصات؟ فأجبته: سيأتي اليوم الذي أستشهد بها عند الكتابة عن هذه المرحلة.. وبالفعل كانت معلومات كتابك عن عدوان 1956 مستندا إلي وثائق وخرائط ومعلومات بعضها كان ملقي علي الأرض لجمعه في القمامة.. وسألتك عن أهمية التوثيق في كتبك وعلاقته بقولك ما أضيع الحقيقة في هذا البلد فأجبتني: هناك مثل عربي يقول (وما آفة الأخبار إلا رواتها).. نحن أمة رواة أحاديث, وفي تراثنا المقامات والسير والطبقات, وجميعها حكايات ناس مأخوذة بالسماع والرواية, ومع الوقت يختلط السرد ويحذف منه ويضاف إليه الكثير.. وعلي سبيل المثال أقول فيما يتعلق بعبدالناصر إنني عشت مرحلته من الداخل والخارج, وكذلك السنوات الأربع الأول من حكم السادات فقد كنت خلالها أقرب رجل وإنسان إليه, وهذا طبقا لأقواله, وهنا نجد البعض الذين يحكون عن أدوارهم في تلك الفترات, بينما الحقيقة أنهم لم يحضروا شيئا ولم يشاهدوا أمرا.. مع مضي الوقت تموت ناس ليأتي من يستبيح التاريخ ليحكي أي حاجة لا علاقة لها بالحقيقة, وهنا تضيع حقائق الأمور.. بالنسبة لي من الممكن أن أروي الحقائق لأنني كنت موجودا وشاهدا, وسيؤخذ كلامي بمصداقية, لكنني بلغة التوثيق أقول: كنت موجودا وهذا هو الدليل من خلال الوثائق المرفقة التي أنفق عليها الكثير, فكتابي القادم لم يقل لي الأستاذ وقتها عنوانه دفعت لوثائقه أكثر من أربعين ألف دولار, وتكلفت وثائق كتابي (سنوات الغليان) و(الانفجار) مبالغ طائلة.. لقد قرأت للبعض, الذين أثق أنهم لم يقابلوا عبدالناصر في حياتهم مرة واحدة, حوارات طويلة أجروها معه!! والأمر هنا ليس متعلقا بعبدالناصر فقط, ولكن من خلال الوثائق علينا التدقيق في وقائع خاصة بتاريخ مصر, وهنا يأتي دوري لقول كلمتي التي تختلف عن كل هؤلاء بذكر ما حدث, ومعي الدليل علي أنه حدث.. وها هو يا أستاذي قد حدث أن أحرق الإخوان ما كان لديك من وثائق قيل يوما إنها لا تقل عن 30 ألف وثيقة مهمة.. و..سألته يومها عن أهم وثائقه فتركني الأستاذ هيكل وذهب إلي مكتبته الضخمة لينحني إلي درجها الأخير ويعود بالكنز الذي لا يخرج عن دوسيه عادي يضم بعض الأوراق ليطلعني بحرص بالغ علي فحواها قائلا: الأوراق هوايتي, وهذه مجموعة خطابات بخط (اللورد كرومر) وقت أن كان حاكما مطلقا في مصر كتبها لصديقه (مون كريف) وآخرين.. ميزتها أنها بخط يده, كتبها في قصر الدوبارة, لقد كان من الشخصيات المهمة للغاية في تاريخ مصر. عندما أجد مثل هذه الأوراق لا أستطيع الوقوف أمامها مكتوف اليدين لتذهب إلي أيد أخري لا تمثل لها أهمية مثلما تمثل لنا. أتقدم لشرائها مادامت لدي إمكانية الشراء.. أذكر أن والدي كان يقول عن أوجه صرف النقود بين أولاده إن أختي الكبري حريصة علي تحويش الفلوس, أما محمد فكل ما عنده يشتري به أوراقا, وكانت في وقته مجلات وكتبا.. رأيت أوراقا كثيرة وصورتها, ولدي الكثير من الأصول لها.. تتساءلين ماذا سأفعل بها؟!.. لم أصل إلي قرار بعد.. خطابات اللورد كرومر مثلا اشتريتها في زيارة أخيرة للندن ورغم أن كاتبها انجليزي لكني حرصت علي اقتنائها لأن صاحبها هام كشخصية أقامت في مصر وأنا مهتم جدا بكل ما يتعلق بمصر بلدي.. وفي مجال اقتناء الأوراق وأصولها لست مؤرخا ولا أريد أن أكون, وإنما أنا صحفي وهذا ما أردته وأريده باستمرار, وما يعنيني في الأوراق أن هناك أشياء محفوظة متعلقة بالفترة التي عشتها سواء علي الساحة السياسية, وبعيدا عنها, وذلك لأنني أولا مازلت أكتب وأدلي بالأحاديث وبالتالي فما أقتنيه من وثائق تهمني مباشرة لعملي ولأن من خلالها المستقبل يتشكل.. ولأنني أسير علي درب أستاذي وجدت من بين أوراقي خطابا ممهورا بإمضائه أرسله لي لأبعثه بدوري للكاتب الصحفي الصديق مفيد فوزي الذي كان قد قام بعمل حوار مطول معه في برقاش علي مدي خمسة أعداد من مجلة نصف الدنيا التي كنت أرأس تحريرها في ذلك الوقت عام..2000 يقول الخطاب:
عزيزي مفيد..
أنت تعرف تقديري لك صديقا وصحفيا, ونجما من ألمع نجوم الحوار. ولأني حريص علي ما بيننا من علاقة.. فإني أرجوك أن تجنبها غربة الخطابات المفتوحة يوجهها أحدنا إلي الآخر كأنها دعوة إلي ملاكمة أو مصارعة, وذلك نوع من الحفلات عالية الصخب تكرر كثيرا وزاد في حياتنا السياسية والصحفية, والأدبية والفكرية, ثم إنه في ميادينه وعلي حلبات هذه الميادين تشابكت وتضاربت الحكايات والروايات بين العصور والدهور سابقة ولاحقة, وجري ذلك في غيبة مشروعية من أي نوع, وفي غيبة حكم مؤتمن علي قواعد هذه المشروعية!
إنني عدت من سفر غبت فيه عن الوطن ثلاثة أسابيع, ثم وجدت في انتظاري خطابا مفتوحا تفضلت ووجهته إلي. وبإذنك فإنني سوف أستبقي هذا الخطاب مطويا حتي نتقابل مرة ثانية, ثم نفتحه وقتها حوارا بين طرفين مهتمين بالسياسة.. رجلين وراء كل منهما في الماضي تجربته, ومع كل منهما في الحاضر موقفه, وأمام كل منهما في المستقبل رؤيته..
نتذكر في الحوار الأخير الذي نشرت وقائعه أنك أنت الذي اخترت له أن يكون حوارا إنسانيا قبل أن يكون حوارا سياسيا, وكان من هنا عنوانك لكل الحلقات مؤكدا ومصرا علي أنه ليس الجانب السياسي وإنما هو الجانب الآخر.
إنني واحد من الذين يعرفون بيقين بداية ونهاية أن الإنسان هو شغل وشاغل السياسة, وأن السياسة لا فعل ولا قيمة لها إلا إذا انشغلت واشتغلت بالإنسان, ومع ذلك فإن هناك درجات ومعايير توزن وتقاس بها المقادير والنسب.
ولعلنا وقد طال الحوار الإنساني السابق بيننا بأكثر مما توقعت, ولكي لا يزداد إلحاحنا علي هذه المجلة الكريمة وقرائها الصابرين ومعهم رئيسة تحريرها الغالية.. أن نفكر ونتطلع إلي حوار سياسي جديد أترك لك بمهاراتك التي نشهد بها جميعا أن تضع القاعدة الحاكمة لطبيعته ولسياقه, وعلي نحو يضمن له أن لا يكون مزيدا من سهام منطلقة بكل قوة ذاهبة إلي فراغ بلا نهاية.. ومع كل الود..
محمد حسنين هيكل
ولأنها الأيام التي يرتفع فيها صوت المؤامرة أشتم في حريقك بالذات رائحة المؤامرة ودسيسة موتور يحسدك في الخفاء, ويضع علي وجهه قناع القناعة والتعقل والاكتفاء بينما هو بالنسبة لإخوانه المرشد الخفي الكامن في بيته الذي لم يكن يتردد علي المقطم.. الذي يعرفك عن قرب, وقد أمنت له ليطوف ويشوف ويتجول بين كنوزك يستطلع عظمتها وندرتها, فينصح من ليسوا بأهل للخلق والإبداع, ولا تعنيهم كتب ووثائق العلمانيين والماركسيين والناصريين نتاج الستينيات, وما أدراك ما الستينيات!!.. يدلهم علي طريق الثأر المثالي منك الذي يضربك في مقتل, بعدما كشفت عريهم وتنبأت بزوالهم وتهكمت علي رئيسهم فحق عليك الحريق.. يبصرهم بسكة برقاش ليشعلوا الحريق في أعز ما تملك.. في مكتبتك.. وكي لا تشير إليه أصبع اتهام, أو يلعب الفأر في العب, أو يضيق الخناق من حوله يحادثك ذلك المحرض بعد الحادث مباشرة ليبدي لك مدي لهفته وتأثره وأسفه بمفهوم يقتل القتيل ويمشي في جنازته!!.. و..بئس المحرض والجاني!!
و..أذكر سؤالي يوما للأستاذ عن مدي حبه لمصر وهو المشغول بمصر وأحوالها وأبطالها وجيرانها واحتياطي نقدها ومائها وقمحها وسولارها, الغائص في بحور لآلئها, القارئ لحروبها الأربعة فيجيبني: لا يحتاج أي إنسان أن يتحدث عن حبه لوطنه, فهو جزء من كيانه, من وجوده, ويمكن أن أقول: إنني لست متحمسا لنوع الوطنية المسطحة في حب مصر والوفاء لمصر إلي آخره.. حب الوطن ليس بالكلام واللافتات ولكن بالعمل لناس هذا الوطن, الشعب هو التجسيد الحي للوطن. للأرض, للتراث. للتاريخ.. معيار أن يحب أي إنسان وطنه أن يلتزم بقضايا ناسه وبحياتهم ومستقبلهم.. الوطنية ليست حفل زار أو حلقة ذكر.. إنها العمل والعمل والعمل من أجل الوطن..
وعدت أسأله عن العمل في منصب وزير الإعلام إلي جانب وزير الخارجية في غياب وزيرها محمود رياض في عام 1970 فأجابني: فهمت لماذا تتسابق الناس علي منصب الوزير, لأن هناك مراسم وطقوسا سلطانية, حيث قال لي أحد وكلاء الوزارة إن هناك أربع سيارات مخصصة للوزير, وهناك موتوسيكل مخصص, ولم أكن أفهم لماذا أربع سيارات, وقلت لهم إن معي سيارة من الأهرام ولا أريد شيئا من سيارات الوزارة, ولكن أول ما دخلت بسيارة الأهرام الوزارة وجدت هناك بابا خاصا للوزير, وأسانسير خاصا للوزير, وحراسا ينبهون إلي مجيئ كحدث خطير, ووجدت أن المكتب كبير والقاعة كبيرة فقررت الجلوس علي الكنبة طيلة وجودي بالوزارة, وحددت اجتماعا يوميا للوزارة يحضره جميع الوكلاء ورؤساء المؤسسات والمستشارين مع الوزير لنناقش جميع الموضوعات ونبت في كل القضايا ونحن موجودون في حضور جميع الناس, لأنه بهذه الطريقة من الممكن أن تكون السياسة تتابعا, وليس بأن يأتي كل وكيل وزارة بورقة وحده لتتشعب الحلول ويفتقد الترابط في القضايا المطروحة.. وبعد الانتهاء من الاجتماع دخل أحد وكلاء الوزارة يقول إن هناك مسائل شخصية يريد محادثتي فيها مثل موضوع السيارات التي رفضتها, فقال لي عن راتب الوزير والبدلات فقلت له إنني لن أحصل علي الراتب لأن هناك راتب الأهرام ولا أستطيع الجمع بين راتبين حتي وإن كان القانون الصادر يقول بالجمع, فقال إذا فهناك ما يسمي بالمصاريف السرية, وهي خزانة موجودة بحمام الوزير يتصرف فيها كما يشاء دون حسابات, وأنه استعدادا لحضوري قام أحد وكلاء الوزارة بالذهاب لمجلس الشعب وحصل علي اعتماد إضافي ب150 ألف جنيه وضعت في الخزانة وهي موجودة بالحمام وشكلها بالخارج يشبه الثلاجة تماما حتي لا يكتشفها الدخلاء.. وعلي أي حال لقد وافقت علي منصب الوزير ولدي تحفظات, فأنا أعرف أنه لقب فارسي ووظيفته مساعدة كسري وحمل الأثقال عنه, وتحمل عقاب الظروف إذا ما فشل ويمكن الاستغناء عنه فورا بوزير آخر إذا لم يستطع تحمل سوءات الحكم!.
ولا أترك فرصة ألقي فيها أستاذي دون أن أسأله عن حال الصحافة.. فيبدي دهشته لتعاقب رؤساء التحرير في فترات وجيزة: أنا شخصيا مكثت 18 سنة.. الجرنال بالدرجة الأولي مثل الأوركسترا الذي يضم عدة عازفين, لو عزف كل واحد منهم منفردا تبقي فوضي لا تسمع, لهذا ولابد من وجود المايسترو الدائم إلي حد ما.. هناك نوع من الزواج الكاثوليكي لابد وأن يكون بين رئيس التحرير وجرناله, وبين المايسترو والعازفين. في الجرائد الكبيرة مثل (الواشنطن بوست) ليس هناك حاجة اسمها رئيس تحرير يقعد سنة وسنتين ويطلع لأسباب غير منطقية.. هناك معيار واحد لرئيس التحرير هو معدل توزيع جرناله, ومستوي أداء هذا الجرنال..
أستاذي.. سيد الكاريزما من لا يستجدي الأضواء وإنما تختزنه الأضواء.. منين ما يمشي ساحب الضوء وراه, وطول ما هو موجود في المجال يشع دوائر جذب تزداد اتساعا كلما نطق بحرف, وبدون ما يشير لك أحد عليه تعرف أنه في المكان من دوران الرءوس للقطب هناك.. الأستاذ.. طالت غيبتك أو هكذا شعرنا هذه المرة التي افتقدناك فيها بعيدا عن حواراتك مع البارعة لميس الحديدي.. نحن في انتظار عودتك للاحتفال بيوم مولدك بيننا لنطفئ شمعته في 23 سبتمبر القادم علي عجل للجميع من بعد الخمسين.. ورجائي عندما تأتي إلينا أن نؤجل النكد معا. ألا تستحضر برقاش في ذهنك وكأن موعدها معك مؤجل إلي أجل غير مسمي, أو كأنه في الغد وليس اليوم, والغد محجوز للقاء لاجتماع لبرنامج لموعد. للجلوس إلي رفيقة العمر الحنون, لسماع ترانيم الأحفاد هدايت ومحمد وتيمور ونادية ومنصور ورشيد وعلي.. استعوض الله خيرا فيما ذهب وتأسي بما فقدته مصرنا الأم من خيرة أبنائها الشهداء, وبحقنا عليك.. بحق كل من يتلمس كلمتك ورأيك وعلمك وثقافاتك ودوائر اطلاعك إنس. تناسي. امسح من فوق شاشة الذكري ما يقلب الأوجاع.. غير مقصدك حتي لا تفتقد مشاهد الطريق إليها.. لا تأت علي ذكرها.. اغلق نافذتها.. أوصد باب صهدها.. ارجع إلينا بغيرها فلم يئن الأوان للفارس أن يترجل من فوق حصانه, وما لألسنة النار أن تعترض سبيله.. احجز علي الفور مقعدك علي طائرة العودة فلم يقل التاريخ سطوره الأخيرة في العديد من قضايانا المفتوحة, والتاريخ قد أعطاك مفتاحه واستأذن في الانصراف موقنا أن في الجعبة حارسا فذا.. لم تطو ألسنة التساؤل في حقائب الوداع بعد, ولم تبرأ ساحة الشك بعد, ولم يفرج عن ساحة الحق بعد, ولا ذكرت بعد محاسن موتانا, ولا كتب دستورنا ولا انتخب رئيسنا ولا أغلق صندوقنا, ولا دكت في سيناء جميع المعابر, ولا سلسلت جميع الشياطين, ولا قلنا كلمتنا الأخيرة في سد النهضة, ولا سيرت القطارات, ولا استقرت مقاليد الصحافة, ولا ذهبت الجامعة لأبنائها بقوة القانون, ولا نفذنا مشروع القناة خاليا من الأردان, ولا أقصي الإخوان من وظائف الاحتلال, ولا مشي السائح في كرداسة, ولا كفت أقلام الوقيعة عن التنكر, ولا سكت الذين ينادون بالمصالحة مع من دججوا الخصام بالمولوتوف والعربات المفخخة والقنابل الموقوتة, ولا نفذت الأحكام, ولا حلت جماعة الإخوان, ولم تكن مذكرات البعض إلا استشهادا بساكني القبور.. لا يا سيدي ليس إقلاقا لراحتك أن نطلب منك ألا ترتاح حتي ولو أردت راحة.. لا.. لا.. بالفم المليان فإن في الليلة الظلماء يفتقد البدر.. لا.. لست كأي واحد فينا يستسلم للحزن فيتركنا ويروح لحاله.. لا.. لست نجما علي المسرح أنهيت دورك وأسدل الستار, فأنت النجم الدائم علي مسرح حياتنا, والجالس إلي جوارنا في اللوج والبلكون والصالة والترسو.. أنت ثروة قومية ندعو الله ألا يؤثر علي عدستها الحريق.. أنت تنطق وتمنطق تاريخ مصر وصفحاته القادمة يا سيدي يتم كتابتها اليوم وغدا.. نريد سماع رأيك.. قدرك أن تكون حاضرا جميع قضايانا المصيرية حتي ولو نالتك النار. مصرنا في حاجة إليك لأنك الأكثر فهما لألغاز الألوان في قوس قزح الواقع المصري والعربي والشرق أوسطي والأوبامي والأردوغلي.. الأوراق لم توقع بعد حول ثورة مصر التاريخية وجيش مصر الباسل ومعاركه الضارية.. هيكل المعارف ينضو عنه ثوب الاستسلام.. حسنين البريق موقعه قارئا وكاتبا ومحللا.. محمد الحضور المكثف عطره الحبر ودماؤه نبض الكلمات.. الجرنالجي قدرته وضع جميع النقاط علي الحروف.. الأستاذ بصيرته تنفذ إلي ما وراء الجدار.. العملاق مصطلحاته أجرومية جديدة في اللغة.. نجم الحوار مهاراته سد جميع ثغرات الحوار.. السياسي المخضرم يستقرئ الأبعاد في الأرض والبحر والجو.. صديق الملك والرئيس والزعيم والصحفي تحت التمرين والجنايني والسائق.. المتذوق فنا وأدبا وشعرا.. ضيف الافتتاح وليس الختام..
أستاذي.. لقد جاء علي لسانك يوما قولك: لا أريد حجة تمنعني أو تعطلني عن أداء واجبي تجاه الكلمة.. اليوم نحن نعيد كلماتك علي مسامعك.. لا نريد لألسنة النار انعكاسا علي بحور عطائك, ولتذهب النار إلي الجحيم, ولتبق لنا جذوة شعلتك منارة الاستنارة.. ولتكن حرائق برقاش بردا وسلاما علي محمد بن حسنين..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.