لقد جاءت السنة النبوية الشريفة لتبين آيات القرآن, من قبيل بيان المجمل وتوضيح المشكل وتخصيص العام وتقييد المطلق, ومن جملة ما بينته السنة اسباب نزول آيات القرآن, وهي تمثل ركنا اصيلا في فهمها, فإن كثيرا من آيات القرآن لايمكن فهمها فهما صحيحا بمعزل عن معرفة سبب نزولها, ومهما حاول المفسر الوصول إلي مقصد النص القرآني بعيدا عن سبب نزوله فإنه لايزداد إلا تخبطا وبعدا عن المعني المقصود من النص. وسبب النزول كما عرفه الزرقاني هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه ايام وقوعه. مناهل العرفان76/1. ومن هنا أهمية معرفة سبب نزول الآية, قال القشيري: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز. البرهان للزركشي22/1. ولسبب النزول فوائد جمة: منها انه يبين وجه الحكمة الباعثة علي التشريع, ومن أمثلة ذلك ما نجده في سبب نزول آيات الملاعنة:(والذين يرمون أوزاجهم ولم يكن لهم شهداء إلا انفسهم فشهادة احدهم اربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) النور:6 9 فقد روي البخاري عن سهل بن سعد انها نزلت عندما سأل عويمر العجلاني النبي صلي الله عليه وسلم عن رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ام كيف يصنع؟ فنزلت الآيات. البخاري1771/4 فوضح سبب نزول الآيات كما ورد في السنة الحكمة الباعثة علي تشريع اللعان وأنه صورة استثنائية لاتدخل في حد القذف. كما تفيد معرفة سبب النزول في الوقوف علي المعني كاملا وتعين علي فهم النص القرآني فهما صحيحا, ومثال ذلك قوله تعالي: وأنفقوا في سبيل الله ولاتلقوا بأيديكم إلي التهلكة واحسنوا أن الله يحب المحسنين البقرة:195 فإنا نقف علي بيان معني التهلكة إذا رجعنا إلي حديث ابي عمران التجيبي انه قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا الينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر, وعلي أهل مصر عقبة بن عامر, وعلي الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين علي صف الروم حتي دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله, يلقي بنفسه إلي التهلكة؟! فقام ابو ايوب الانصاري فقال: أيها الناس انكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل, وانما انزلت هذه الآية فينا معشر الانصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه, فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت, وإن الله قد اعز الإسلام وكثر ناصروه, فلو اقمنا في اموالنا فأصلحنا ما ضاع منها, فأنزل الله علي نبيه صلي الله عليه وسلم يرد علينا ما قلناه وأنفقوا في سبيل الله ولاتلقوا بأيديكم إلي التهلكة فكانت التهلكة الاقامة علي الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. أبو داود12/3 اي الغزو المراد منه الدعوة إلي الخير وصد العدوان. ومن فوائد معرفة سبب النزول ايضا: انه يزيل الاشكال الذي يمكن ان يحدثه ظاهر النص القرآني, ومن ذلك ما جاء عن مروان بن الحكم انه قال لبوابه: اذهب إلي ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي واحب ان يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. ويقصد مروان قوله تعالي: لاتحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب آل عمران:188 فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية, انما دعا النبي صلي الله عليه وسلم يهود وسألهم عن شيء فكتموه إياه واخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما اخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم. البخاري1665/4. ومن فوائده كذلك: انه يدفع توهم ان يكون النص قد حصر الحكم في الافراد التي ذكرها, فقوله تعالي: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما علي طاعم يطعمه إلا يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير الانعام:145 ظاهره يفيد حصر المحرمات من الاطعمة في هذه الأصناف الاربعة, ولكن بالعودة إلي سبب نزول هذه الآية تبين ان الحصر متوهم, فقد ذكر الشافعي أن الآية نزلت لترد علي المشركين حين احلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله فناقضوا الشريعة, فأراد البيان الإلهي ان يرد عليهم مناقضتهم فنزلت الآية, وكأنه يقول فيها: لاحلال إلا ما حرمتموه ولاحرام إلا ما أحللتموه والغرض من ذلك المضادة لا النفي ولا الإثبات علي الحقيقة. البرهان23/1. والحاصل ان قواعد الفهم السليم اقتضت ان يستعان بسبب النزول الذي هو من السنة في بيان النص القرآني المعجز والوقوف علي المعني الكامل والصحيح للآيات. المزيد من مقالات د. علي جمعة