لا يختلفة اثنان حول شاعرية علي محمود طه, والدور الذي قام به في الحركة الشعرية الحديثة تجديدا وتطويرا من خلال دواوينه المتتابعة: ديوان الملاح التائه(1934), وليالي الملاح التائه(1940), وزهر وخمر(1943), والشوق العائد(1945), وشرق وغرب(1947), بالاضافة إلي ملحمته الشعرية أرواح وأشباح(1942), ومسرحيته الشعرية أغنية الرياح الأربع(1943), وقد أتيح لشعره منذ أربعينيات القرن الماضي حتي اليوم من الذيوع والانتشار ما جعله علي كل لسان, بفضل قصائده التي لحنت وغنيت: الجندول وكليوباترا وفلسطين, واتسع مجال الحديث والدراسة عن الشعراء الثلاثة الذين كونوا رافدا أساسيا في شعر جماعة أبولو: علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل, وعن تفرد كل منهم بملامحه وقسماته الخاصة ولغته الشعرية, بالرغم مما بينهم من أواصر مشتركة في مجال الإبداع الشعري, وهنا, ينفرد شعر علي محمود طه بالسبق في عكوف كثير من النقاد والدارسين علي تأمل هذا العالم الرحب وهذه اللغة الشعرية المدهشة وهذا التنوع الغزير في شعره العاطفي والوصفي والوطني والقومي, في مقدمتهم: أنور المعداوي ونازك الملائكة وسهيل أيوب وغيرهم من الذين اهتموا بدراسة الشعر المصري الحديث بعد شوقي. وغاب عن هؤلاء, وعن قراء الشاعر, أنه له من الكتابات النثرية ما يستحق القراءة والمراجعة, وبخاصة أن كثيرا من هذه الكتابات حول رحلاته الصيفية إلي أوروبا في أعوام1946,1939,1938 يكشف عن الكثير من مراحل حياته وملامح شخصيته وتفاصيل هذه الرحلات إلي ايطاليا وفرنسا والنمسا وسويسرا قبل الحرب العالمية الثانية وبعد انتهائها, والأحوال السائدة في أوروبا طوال هذه السنوات التي أبدع فيها جملة من قصائده الشهيرة: أغنية الجندول, وبحيرة كومو, وتاييس الجديدة, وخمرة نهر الراين, وألحان وأشعار في منزل فاجنر, وفلسفة وخيال, وعلي حاجز السفينة, والبحر والقمر, ولحن من فيينا, وأندلسية, وراكبة الدراجة وغيرها. من هنا كان اهتمام الأديب الباحث محمد رضوان بالكشف عن هذه الكتابات النثرية وجمعها وتحقيقها, وهو الجهد الكبير الذي أسفر عن ظهور مجلد مستقبل ضمن الأعمال الكاملة لعلي محمود طه التي اصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة, يضم كتاباته النثرية المجهولة. أول ما يلفت النظر في هذه الكتابات أنها تؤكد تألق علي محمود طه في الكتابة النثرية تألقه في ابداعاته الشعرية, وأن قلمه المتدفق السيال في هذه الكتابات يكاد يطلعنا علي أن لكل قصيدة من قصائده التي أوحتها رحلاته الصيفية إلي أوروبا قصة كانت سببا في تحريك وجدانه وانطلاق قيثارته بالغناء, كما كان لهذا اللقاء الحضاري والفني مع الحضارة والفن الأوروبي أثره في عودة الشاعر إلي مكوناته المصرية وتراثه الفرعوني وحضارته العريقة في مقابل ما يشاهده ويستوقفه من البشر والأثر, وما يجتذبه من صور الفن والجمال في الناس والحياة. وقد اعتمد الباحث محمد رضوان علي العديد من المصادر والمراجع التي تضم هذه الكتابات, من بينها مجلة الرسالة(1934 1949), مجلة الصباح(1938 1942), وصحيفة النداء(1947 1948) ومجلة أبولو(1933 1934), ومجلة الهلال(1934 1949), ومجلة مسامرات الجيب(1949 1950), وكتابا أرواح شاردة لعلي محمود طه(1941), وعلي محمود طه الشاعر والانسان لأنور المعدواي( بغداد: دار الثقافة1965), بحيث تجمعت لديه مادة ضخمة, من بينها مختارات من الشعر العالمي ترجمها علي محمود طه ترجمة نثرية بديعة ينساب فيها ماء الشعر وكيمياؤه إلي اللغة العربية. يقول علي محمود طه وهو يتحدث عن الشاعر الفرنسي بودلير صاحب ديوان أزهار الشر: مهما كان تمرد بودلير مستمدا من فلسفة عقلية غير سليمة, ومهما كان شذوذه مستمدا من ذات حياته, فلا يمكننا إلا التسليم بأنه رفع إلي الأدب أسمي صور الخيال والفكر, وأنه رفعها باقتناع. لأنها في جوهرها تثبت شجاعته واخلاصه الرفيع لفنه, فلم ينحط إلي التجارب الفجة, ولم يسف إلي اللافنية( الخروج علي الفن) باسم التجديد. لقد استطاع بودلير أن يطبع بطابع لا يمحي كل شئ بصفاء مشعشع بالنور, وبساطة تامة, وتخلص رشيق, في عبارات كلها صدق وكلها جمال, غير مقيد بتلك الهرطقة العاجزة, ففكرة الفن عند بودلير هي فكرة التحايل والمهارة. ومن أطرف كتاباته النثرية قوله عن شوقي أمير شعراء عصره: لقد أدي شوقي رسالته إلي عصره بقدر ما هيأه الله وأتاح له ذكاؤه وأدبه وعلمه وشاعريته, وإن قصر شوقي في بعض النواحي الشعرية فجاءت دواوينه الثلاثة خلوا من شعر الوجدان فهذا لا يفوت عليه حسناته فيما بقي لنا بعد ذلك من شعره. وحسبه أن يكون شاعر الاجتماع أو التاريخ, فهذا كيلنج شاعر الامبراطورية البريطانية لا تجد الإنسانية في شعره ظلا تتفيؤه أو نبعا تبل من مائه صدي أحشائها, شعر لا أثر للوجدان ولا للعاطفة الانسانية فيه, ومع هذا فهو شاعر الامبراطورية وحامل جائزة نوبل. فما لنا إذن نستعدي علي شوقي الأقلام وليس من شوقي كثير لدينا! أجل, كان شوقي مقلدا في بعض شعره, ولكنه كان منتجا, وقد أردناه أن يبدل نهجه في الشعر ويبدأ من حيث بدأنا نحن, ولكنا لم نذكر أننا ابتدأنا من حيث انتهي هو.. إن صدور هذا المجلد الذي يضم الكتابات النثرية المجهولة لعلي محمود طه يضيف لنا كثيرا من المتعة الأدبية والفنية التي طالما ساعدتنا علي التحليق في عوالمه الشعرية البديعة ونحن مسحورون بروعة قصائده وعذوبة إنشاده وصفاء لغته وبيانه. المزيد من مقالات فاروق شوشة