في طفولتنا كان عسكري الشرطة أداة للتخويف, يهابه اللصوص, ويخشاه المجرمون, وكانت له سطوة واحترام دون أن يمسك في يده سلاحا كان زيه الرسمي, وصفارته, كفيلين باحترامه, كانت صفارته بمثابة سيارة نجدة. ما أن يطلقها حتي يهب لنجدته عشرات من زملائه, فيعيدون الأمن والنظام في الحال, كما كان وجوده في أي مكان يبعث علي الطمأنينة والأمن, ولم يكن يجرؤ احد أيا كان علي المساس بالأمن في وجوده, أو حتي الاقتراب منه ومن ملابسه. وكانوا يقولون إن أزرار بدلة العسكري لو قطعت, فإن عقوبة الجاني ستة أشهر حبس. أقول هذا بمناسبة تردي حال عسكري الشرطة وفقدانه هيبته, فحالته لاتسر أحدا, وشخصيته لم يعد لها وجود, بالرغم من وجود آلاف العساكر والضباط في الشوارع. فقد كبلناه بمئات المحاذير, واستنسخناه بفئات جديدة (مندوبين وأمناء) وجعلناه في الدرجة الدنيا دونهم, الخفراء النظاميون, تعالت رواتبهم علي راتبه, أرهبناه وخوفناه بالفئات الجديدة التي ظهرت في المجتمع, وصارت كل هيئة تختبر قوتها بالحط من شأن الشرطة ورجالها, وكلها تفاخر بانتهاك القانون. وكل فئة لها علامتها المميزة التي تخيف هذا العسكري وترهبه هو وغيره, من المساكين الاخرين من رجال الشرطة, كما أصبحت السيارات الفارهة, والأرقام المميزة تخيفه, والبادجات العريضة علي زجاج السيارات ولوحاتها ترعبه, وأصبح يؤدي التحية لركابها صاغرا, سواء تعرف علي ركابها, أو لم يتعرف, حتي لو كانوا لايستحقون, بعض السيارات الخاصة تضع علامات علي زجاجها لإرهابه وتخويفه, بعضهم يضع النسر شعار الدولة علي سيارته, وآخرون يضعون ميزان العدالة, وفئة ثالثة تضع الهلال, ورابعة تضع قبة المجلس, وخامسة تضع لوحات هيئة سياسية, كما ظهرت أرقام لوحات معدنية ليست أصلية بالطبع تحمل أسماء هيئات لها جلالها وتقديرها. كل هذا في محاولة فجة لترويع هذا العسكري المسكين, وتخويفه, وإسكاته, وإرهابه, وأكثر من هذا فقد أشبعناه سخرية في مسرحياتنا وأفلامنا. الغريب أن الدولة كرست حالة التردي التي وصل إليها عسكري الشرطة, فقد أذاقته ذل الحاجة بالرواتب الضعيفة والهزيلة, وأوقفته في الشارع ساعات طويلة, دون أن تكلف خاطرها بأن تبحث له عن مكان مريح يؤدي فيه عمله, أو تلبي حاجاته اليومية من غذاء مناسب في الموعد المناسب, وجعلته محلا لتلقي الصدقات من المحسنين, وجعلت من عقابه مسألة بالغة السهولة, كما أنها تتغاضي عن إهانته المتكررة في الشوارع, من سائقي الميكروباص, والفئات الجديدة التي ذكرناها, وسنت له قانونا يبيح التصالح في الاعتداءات التي تقع عليه, فهو في النهاية يرضخ لمشيئة رئيسه, عندما يطلب منه الصفح عن جريمة ارتكتب في حقه. كل هذا جعلنا نتقبل نتيجة فعل أيدينا طواعية, نحن الذين فعلنا هذا بأنفسنا عندما سخرنا منه, فأصبحت شوارعنا مثالا للفوضي, وانتشرت السرقات علنا, وظهرت جرائم الفجور في الشوارع من خطف واغتصاب وتحرش, وانتشر القتلة, والسفلة, والأوباش في شوارعنا أثناء غيبته. لقد آن الأوان أن نعيد لعسكري الشرطة هيبته وتقديره واحترامه, وأن نجعله ممثلا حقيقيا للأمن, وهذا لن يتأتي إلا من رفع مستواه المادي أولا وثانيا وثالثا, وإعادة ثقته بنفسه, وتأهيله, ورفع مستواه العلمي, وأن نعيد له سلطته التي استولت عليها الفئات الدخيلة عليه, وأن نحترم قراراته في الشارع, ونجرم الاعتداء عليه بطريقة فعالة وحاسمة, تجعل من يقترب منه يفكر ألف مرة قبل أن يفعلها, ففي دول الغرب, والخليج, والمغرب العربي أيضا, لا يجرؤ أي شخص, مهما تكن وظيفته أو صفته, علي عدم إطاعة أمر أصدره عسكري مرور. ومن سلطاته في الدول المتقدمة أن يزيل المخالفة فورا من مكانها, وعلي حساب المتسبب فيها, وفي تلك البلاد يجبر المواطنون علي احترامه, ويخاطبه الكبير والصغير بكل تقدير واحترام. إننا لا نطلب من وزارة الداخلية فقط أن تعيد كرامة هذا العسكري, ولكننا نطلب ذلك من المجتمع, والصحافة والإعلام, كل فئات المجتمع المدني, الذي شعر أنه بحاجة إلي صفارته لتعيد له الأمن والأمان. هل آن الأوان لذلك؟