أخذت التعديلات التي أقترح ادخالها علي قوانين التأمينات الاجتماعية, وهما القانون1979 والقانون112 نصيبا وافرا من المناقشات, وهي المناقشات التي صبت ليس فقط في نقد التعديلات ذاتها وإنما في مناقشة المفاهيم الأساسية التي تحيط بفلسفة نشأة النظم التأمينية في غالبية البلاد. وبالتالي بفلسفة التعديلات التي وضحت مع مشروع القانون الجديد والتي لاقت معارضة واسعة, وقد بدأت وتيرة هذه المناقشات ثم تعالت عندما طرحت وزارة المالية( قبل25 يناير2011) مشروع قانونها رقم135 والذي من المفروض أن يوضع في التطبيق مع بداية عام2012 بعد إقرار لائحته التنفيذية. والواضح حتي الآن أن القانون135 لن يدخل موضع التطبيق لأن لائحته لم تصدر بعد, ولا يسمع عنها أخبار, وهو ما يساعد علي التفاؤل ويدفع إلي المطالبة برفضه ثم التفكير في وضع تشريع متكامل للتأمينات الاجتماعية يعود به إلي مفاهيمه وفلسفته الأساسية ويتلاءم مع المتغيرات الاقتصادية الجارية الآن وتلك الأخري المستقبلية, بحيث يكون قادرا علي مسايرة مستجدات سوق العمل وحركة الصناديق التأمينية المرتبطة بهذه السوق. وفي البداية لابد من إقرار أن مصر كانت سباقة في وضع وتطوير نظامها التأميني منذ بدايات عشرينيات القرن العشرين( اقتصر تطبيقه حينذاك علي موظفي الدولة) ثم أعادت تطويره بعد انقطاع في العقد الثلاثيني من ذات القرن لتبدأ من جديد وضع القوانين التأمينية مع خمسينيات وستينيات القرن الفائت ليغطي عددا هائلا من العاملين بأجر في جهاز الدولة والقطاعين العام والخاص, وقد بات النظام التأميني نظاما يخفف من حدة الفقر في البلاد لأنه يضمن الاستقرار المالي المنتظم في حالات العجز والشيخوخة والوفاة لشريحة واسعة من المصريين ولعائلاتهم من بعدهم, ولا نأتي بالجديد إذا ما ذكرنا أن الخبراء والخبيرات المصريين الذين أسسوا نظم التأمينات وطبقوها لسنوات باتوا بعد فترة من الخبراء المرموقين الذين تستعين بهم الدول العربية وغير العربية لوضع ولتأسيس نظمها التأمينية. كما أن البنك الدولي ذكر في أحد تقاريره أن نظام التأمينات المصري عامل مخفف من حدة الفقر في البلاد, والسبب وراء هذا الرأي هو أن نظم التأمينات المصرية تضمن ولو لشريحة من الأسر المصرية حدودا من الأمن الاجتماعي التي لولاها لتحركت تلك الشريحة إلي مستويات الحياة ما دون خط الفقر, وحتي لو أن البنك الدولي لم يقلها, فنحن كعاملين وكعاملات مصريين نشعر بهذه الحقيقة عندما نتعرض في حياتنا لاصابات عمل علي سبيل المثال أو عندما نصل لسن التقاعد, في هذه الحالات نشعر بأهمية هذه النظم التي اثمرت أجيالا منا تسهم وتنمي فيها وتمدها بمدخراتها العائلية الشهرية. في اجتماع فرعي عقد في إطار أعمال لجنة تيسير أعمال الاتحاد العام لنقابات عمال مصر حضرته السيدة الأستاذة ليلي الوزيري الخبيرة الكبيرة التي قضت كل عمرها المهني تقترح وتنظم وتطور من الحقوق التأمينية للعاملين المصريين أسرهم, قالت إن حجم أموال صناديق التأمينات في مصر لا يقل عن603 مليارات جنيه مصري مع احتساب كل الفوائد التي لاتزال توجد لدي الدولة, وهو حجم مالي كبير يعني أن العاملين المصريين قدموا لتنمية بلادهم هذا المبلغ الكبير وبالتالي يستحقون مقابله حقوقا تأمينية لا يمكن اغفالها, وأضافت أن نظم التأمين الاجتماعية وإن كانت تأخذ شكل مدخرات شهرية أو سنوية يقدمها أصحاب الأعمال والعاملون لديهم ولكنها في الأساس تستند علي فلسفة اجتماعية مهمة: إنها نظم تسهم في ضمان الأمن الاجتماعي للمجتمع ثم استمرار هذا الأمن, بحيث يكون لكل مواطن عمل واجتهد في حياته العملية والانتاجية دخل يسمي معاشا يستند عليه وقت الحاجة العمرية أو الصحية ثم يورثه لمن يستحقه من عائلته أيضا وقت الحاجة, وإذا كنا نتحدث الآن عن أن الحد الأدني للأجر يضمن هو الآخر الأمن الاجتماعي فإننا نعود ونؤكد أن وجود المعاش الذي يستند عليه الإنسان المنتج هو الآخر شكل من أشكال الأمن الاجتماعي الذي بات من حقائق الحياة ومن الحقوق بحيث أصبح نظاما معمولا به في عدد هائل من البلدان, وإن اختلفت أشكال وحالات تطبيقه وتنوعت مزاياه. إنها نظم تكافلية تضامنية, يتضامن العاملون في بنائها وتيسيرها بحيث يتم التضامن والتكافل فيما بينهم وقت الحاجة, فالشاب يعمل والمتجاوز لسن التقاعد يحصل علي المعاش, وينتج الاصحاء ليعالج المرضي أو المعرضون للاصابات, وهكذا يقدم القادر لغير القادر حاجته وقت اللزوم, علي كل منا مسئوليته وقت القدرة ثم لكل منا أيضا حقوقه وقت الحاجة. ولكن وبالرغم من أنها أموال خاصة ولكنها تحت رعاية وحماية الدولة, فالخزانة العامة هي الراعية والضامنة لها ولكل حقوق العاملين والمستفيدين منها, وهنا لا يقتصر دور الدولة علي مجرد حماية المال الخاص للعاملين ولكن حماية فلسفة الضمان الاجتماعي ذاته بحيث ترعاه كشكل من أشكال التكافل وليس مجرد وسيلة من وسائل ادخار للمال العائلي, تغذي الدولة المعني وتنشره لتحوله إلي ثقافة عامة يؤمن بها كل العاملين في المجتمع وكل النشيطين الاقتصاديين فيه. لذا عندما ترتفع الآن المطالب الخاصة بإلغاء القانون135 وبعدم تفعيله وبعدم خروج لائحته التنفيذية قبل بداية عام2012 فإننا نجد هذه المطالب تصحح الخطوات والمفاهيم والفلسفة التي خرج هذا القانون الأخير, غير المرضي عنه, عنها وألغاها والسبب الرئيسي هو أن هذا القانون الجائر أفرغ فكرة الضمان الاجتماعي من أساسها التكافلي ليضعها في إطار ومفهوم الجباية. وترتبط فكرة إلغاء هذا القانون مع فكرة سلخ صناديق الضمان الاجتماعي من وزارة المالية وعودتها إلي أصولها الطبيعية كصناديق مستقلة تديرها هيئات مستقلة ترعي الأموال الخاصة وتنظم حقوق الناس المستحقين لها, ولكنها تستمر أموالا وبشكل دائم ومتواصل تحت رقابة وحماية الخزانة العامة أولا لضخامة حجم المال المودع بها ثم لأهمية المصالح العائلية المرتبطة به. كما ترتبط هذه المطالب المنادية لإلغاء القانون بفكرة حماية هذه الصناديق من المغامرات التي قد تتعرض لها في حالة التصرف فيها أو جزء منها بأسلوب غير مسئول يفقد المواطنين أهم جانب من فلسفة الضمان الاجتماعي وهو الأمن الاجتماعي ذاته. في المقابل يري العديد منا أن إعادة النظر في تشريعات التأمينات الاجتماعية وإعادة تأسيسها علي فلسفتها الاجتماعية باتت حالة ملحة, ولدينا من الخبراء عدد وقدرات ما يكفي لانجاز ذلك بكل سرعة وبكل شفافية. المزيد من مقالات أمينة شفيق