الشاعر عبد الفتاح بن حمودة يمثل صوتا خاصا، هو الشاعر الثائر الذي شكل تجربة "حركة نص" الحركة الثانية في تاريخ الأدب التونسي بعد تجربة حركة الطليعة من 1968 إلي 1972، وذلك بمعية الشعراء والنقاد في الحركة: زياد عبد القادر، أمامة الزاير، خالد الهداجي، صلاح بن عياد، شفيق طارقي، نزار الحميدي، السيد التوي، عبد الواحد السويح...وآخرين من جيل التسعينيات، وقد صدر له مؤخرا كتابه الرائع حركات الوردة وهو تغريدة مختلفة في مجال النثر وكان لنا معه هذا الحوار. الكتابة العصية .. ماذا تعني للشاعر بن حمودة؟ تأخذ الكتابة أشكالا متعددة وتلبس لبوسا مختلفا. فهي في مطلقها شاقة وعسيرة بأي حال. ففي جميع الأشكال الإبداعية ( رواية، قصة، شعر، نقد، سيرة روائية، نص مسرحي، تأملات،.....) تتطلب حضورا ذهنيا، كبيرا لأنها في أشكالها الإبداعية تلك، خاضعة إلي العقل والوعي، ولكنها في نفس الوقت تجنح إلي التخييل وخلق حساسية جديدة باختلاف الفنّ الذي لبسته الكتابة. وهي عصية وشاقة وشقية لأن قدرها أن تكون كذلك، لكن من قدرها السييء أنها مرتبطة بالنخبوية، ومن هذه الجهة يأتي اتهام الكتابة( في أشكالها الإبداعية المختلفة) أنها متعالية، في حين أنها مرتكزة علي الجوهر الإنساني.. فمهمتها العسيرة الكشف عن المناطق القصية في أعماق النفس البشرية في حضور قطبيْ الرحي : الوعي واللاوعي. هل الكتابة فلسفة؟ وما هي فلسفتك شاعرا وكاتبا؟ لكل كتابة فلسفة ما في اعتقادي، باعتبار مدار الكتابة الفنية حول الأسئلة المتعلقة بالوجود مثل صراع الخير والشر والجمال والقبح والحرية والعبودية.. وهي - أي الكتابة - رحلة مضنية قائمة علي البحث عن رؤية جديدة للعالم والأشياء والأسماء.. إني أشبه الكتابة بالسيدة العجوز، والكاتب يحاول خلق شابة جديدة دوما. ولكل كاتب شابة في البداية وسيدة عجوز في النهاية! إنها رحلة أبدية قاتلة ولكنها مدهشة وأخاذة لأنها قائمة علي الدهشة والإدهاش والبساطة والعمق. ولقد بلّغت فلسفتي في الكتابة في آخر كتاب صدر لي بعنوان" حركات الوردة" كتاب تأملات شعرية أنجزته خلال عشرين عاما (من 1993 إلي 2013). كتاب أعتبره محطة مهمة في مسيرتي الشعرية من خلال منجزي في قصيدة النثر بعد سبعة إصدارات شعرية جربت فيها ما رأيته تعميقا لقصيدة النثر في أفقها العربي. ومن خلال "حركات الوردة" - محصول الرحلة - تنكشف للقاريء رؤيتي للغة والوجود والعالم والأشياء. وأعتقد أن هذه الفلسفة/ بمعني الرؤية الفنية تتأسس علي الاختلاف والتنوع والتعدد والانتصار للشعر في جوهره باعتباره مخلّصا للعالم، رغم أن هذه الرؤية مسكونة بالتعالي والوهم بمعناه العميق باعتباره حافزا فنيا في النهاية... ذلك أن الحقيقة/ الحقائق قاتلة ومجرمة! حركات الوردة.. هل هي صراخ جيل مفقود؟ لقد عاش جيلي( التسعينات) اليتم والانقطاع كما يسميه الناقد المغربي محمد بنيس، وفيما بعد عمّق تلك الرؤية الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي. لم يكن همي في »حركات الوردة« سوي تخليص الشعر العربي من مآزقه لأني بنيته علي المفارقة والتمرد وإدانة العالم، وهو ليس صراخا لأني أمقت الصراخ والجعجعة وأنتصر للفعل والبناء. وربما عبر كتابي حركات الوردة عن هموم جيل كامل من الدمع والدم(جيل التسعينات في تونس، التسعينات المذلة والمهينة بمختلف أوهامها الفنية والأدبية والشعرية خصوصا).ورغم أن الإبداع في مطلقه قائم علي الفرد والخصوصية، فإنه معبر عن أحلام ورؤي الجماعة فيما هو تجربة فردية أساسا، فأبناء جيلي وجدوا أصواتهم ومرآتهم بشكل ما في حركات الوردة. إلي متي ستظل نشوة التحقق تطارد المبدع؟ محنة المبدع هي محنة "سيزيف" ومحنة "بروميثيوس" أو فلأطلقْ عليها محنة "الأحدب"! وهذه التسمية أستعيرها من الأستاذ طارق الناصري الذي كان أول من أطلقها في مقال يرصد ظاهرة الشعر التونسي الذي كان ينجزه طلبة الجامعة التونسية في التسعينات فهو أول من أطلقها علي الشعراء الجدد آنذاك(من الطلبة أساسا) ومازالت صورة الأحدب ترافق الشاعر التونسي المعاصر والشاعر العربي عموما... إنها محنة الشاعر الأبدية... يعاني الشعراء الجدد من معوّقات كثيرة أمس واليوم وغدا، إنهم ضد الساعة وضد الزيف والمجاملة والتهميش والإقصاء في ظل سيطرة لوبيات ثقافية مختلفة مازالت تشتغل إلي اليوم بشكل انتهازي وانبطاحي فقط فهي تغير الثوب مثل الثعابين (ماكنة النظام القديم وماكنة الرجعية وهبوب رياح قوي الظلام!) وبين هذا وذاك يبحث الشاعر التونسي عن الحرية( الكنز المفقود)! مؤسسة الثقافة. هل قادت الإبداع إلي الهاوية؟ المؤسسة في تاريخها الطويل هي مؤسسة قائمة علي الضبط والعنف الرمزي لأنها تستمد سلطتها من المثقفين الدائرين في فلكها من كتاب وجامعيين وفنانين وإعلاميين وانتهازيين من جميع الأصناف. المؤسسة التونسية مازالت تنتصر لثقافة الفولكلور و»البرستيج« والرقص علي حساب الثقافة الجادة، لأن الثقافة الجادة تقوض سلطاتها وتتمرد عليها باستمرار. فحال المؤسسة الثقافية مثل الجندي الأعور الذي انضم بعد التدريب إلي فرقة المدفعية، فوضعه القائد العسكري في فرقة القصف العشوائي! ورغم ذلك ستعود المؤسسة الثقافية إلي الشعب وعموم الجماهير ضد الصالونات والفولكلور. وهذا الأمر سيقوده المبدعون من داخل المؤسسة ومن خارجها. لابد من ثقافة بديلة ضد السائد والمألوف، ولابد للمبدع أن ينزع عنه ثوب التواكل والسلبية والاستكانة والخضوع والانتهازية. الثورة.. الشعر.. الحلم.. الانكسار.. تصورات العالم العربي اليوم، كيف تري الربيع العربي؟ لم يبدأ الربيع العربي بَعْدُ! والربيع العربي الحقيقي سيقوده المثقفون والمبدعون والفنانون والمفكرون الجادون مستقبلا.. ما حدث انتفاضات شعبية من المسحوقين والبطالين والمعطلين والجياع ونخبة قليلة معارضة يسارية أساسا من المجتمع المدني والنقابات التي لها تاريخ عظيم، ولكنها ستنتج ثورة أخري بعد ربع قرن آخر من التخريب. لابد لهذه الأمة من درس في التخريب كما قال الشاعر مظفر النواب. أنا مع التخريب الجميل الذي سينتج حراكا واعتمالا جنونيا انطلاقا من البني التحتية ومن الواقع ( هذه الحجرة الثقيلة!) التخريب الذي سيغير الخارطة، نحو الوعي والالتحام بالجماهير التائقة إلي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والشغل. علة هذه الأمة في نخبها السياسية والثقافية معا، فلا خير في مثقف يتمسح علي أعتاب السلطان ولا يقود ثورة الوعي. الترجمة والنشر وأزمة المبدع.. إلي متي؟ الترجمة فن وبحث وعطاء وعناء، والمترجم قدره قدر الكاتب الذي يحتمي بالرمضاء من النار! يعاني من معوّقات كثيرة منها السقوط في التسرع والبحث عن أسماء رنانة عوض الالتفات إلي آداب شعوب لا نعرفها مثل الأدب الافريقي الغني روحيا ومعرفيا ووجدانيا (وهذا ما فعله المترجم التونسي المغامر جمال الجلاصي وهو من زملائي المؤسسين لنقابة كتاب تونس(صيف 2010) بالاتحاد العام التونسي للشغل بتاريخه النضالي الطويل). إنه يفتح قلبه للآداب الافريقية ومن بين أعماله في الترجمة رواية »إضراب الشحاذين« للكاتبة السينغالية اساو فالب الصادرة بالقاهرة مصر 2012 عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر. وكذلك أنهي منذ مدة تعريب الأعمال الكاملة للشاعر السينغالي الكبير ليوبولد سيدار سنغور ثم شرع في ترجمة الأعمال الكاملة للشاعر ايمي سيزار« إضافة إلي ترجمته لرواية »السيد الرئيس« للروائي الغواتيمالي»اميغيل أنخيل آستورياس« وكانت قد صدرت في القاهرة مصر عن مؤسسة أروقة كذلك سنة 2011. طريقنا الحقيقي إلي افريقيا قارة الألم والحرارة والمالاريا والإيدز والعاج والأنهار والبن والغابات واليورانيوم والذهب والسباع والضواري... قارة الأناشيد وقارة القارات، افريقيا خصر العالم والخصب والنماء وأناشيد الجبارين. أما مسألة النشر فألخصها في أن الناشر التونسي وربما العربي مثل منشار تونسي يأكل الخشب في صعوده ونزوله! إنه مصاص دماء ودراكولا حقيقي هنا.. والدولة الغبية حتما تمنحه امتيازات جبائية ومنحاً كاملة لدعم الورق ( آلاف الدنانير) وهذه القوانين وضعتها الدكتاتورية لشراء ذمم الناشرين ومراقبة ما يكتب بشكل بوليسي مفضوح! بينما العملية الإبداعية قائمة في جوهرها علي المبدع.. وعلي وزارة الثقافة التونسية مراجعة كل شيء والانتصار للمبدعين عوض الانتصار لكمشة من السماسرة والتجار من مصاصي الدماء والمتحيلين فهم يطبعون ألف نسخة من كل عمل إبداعي في حين يصرّحون في دفاترهم للوزارة بأنهم طبعوا ألفي نسخة أو أكثر لنيل دعم مضاعف يقدر بآلاف الدنانير من الأموال المهدورة والمسروقة من عرق الشعب التونسي! الكاتب التونسي له الله والشوارع والمطر والشمس الحارقة، والآخرون السماسرة لهم البطون التي تنزّ دما وقيحا ولهم الأرداف الممتلئة! النقد.. كيف تراه، وهل نحن مازلنا في كهف النقاد نرجو المبايعة؟ النقد!( موجود طبعا في بنوك السعودية وقطر والإمارات والكويت ونيويورك وسويسرا ولندن وطوكيو وباريس وبرلين!)... رغم ذلك، ثمة أصوات نقدية جادة تخوض حربا ضد الرداءة.. ثمة نقاد يشتغلون علي النصوص التونسية مثل: فتحي النصري وفتحي الخليفي ومصطفي الكيلاني والسيد التوي وعياد بومزراق ومحمد صالح بن عمر والهادي العيادي وعبد القادر العليمي... وغيرهم من الأساتذة الجادين في الجامعة التونسية. والمسألة لا علاقة لها بالمبايعة. علي المبدع أن ينتج نصا وعلي الناقد أن يعيد إنتاج النص وإنتاج المعني. فمن ليل المعني ينبجس الضوء ومن الصخر تولد الينابيع! والتراكم الكمّي هو الذي سيحدث التراكم النوعي وسيحدث الفارق في المستقبل.. أكره الاستنقاص من المبدع أو الناقد الحق لأنه مبدع أيضا. وإنّ الكلام علي الكلام صعب كما قال أبو حيان التوحيدي. ماذا عن جديدك؟ كل جديد في يدي هو قديم كما قلت في كتاب حركات الوردة الذي صدر مؤخرا بعد انتظار عشرين عاما. أعمل الآن علي إنجاز عمل شعري سيأخذ مني سنوات من الشقاء والألم .. وأعمل كذلك بمعية زملائي في »حركة نص« الشعرية والنقدية التونسية علي إنجاز الكتاب الثاني للحركة الذي سيصدر عام 2015. فقد أردناه كتابا دوريا ولكن لظروف مختلفة تأخر صدوره عامين كاملين في حين بدأنا إنجازه أواخر عام 2011 في سياق ثوري. وسيصدر نهاية سبتمبر 2014. والكتاب الأول ضخم وثري جدا ومتنوع يمكن اعتباره كتابين اثنين في عدد واحد دوري وهو محصول ثلاثة أعوام من ميلاد »حركة نص« في صيف 2011. وصدرت بياناتها الأولي في مجلة الكتابة الأخري الإشارات التونسية الذي أنجزه المبدع والمحرر المصري هشام قشطة وطبعه في القاهرة 2012. وهو الذي حرضنا علي إنجاز كتاب مماثل. كل اهتماماتي الآن منصبة أيضا علي إنجاح تجربة »حركة نص« فهي الحركة الثانية في تاريخ الأدب التونسي بعد تجربة حركة الطليعة من 1968 إلي 1972، وذلك بمعية زملائي الشعراء والنقاد في الحركة : زياد عبد القادر، أمامة الزاير، خالد الهداجي، صلاح بن عياد، شفيق طارقي، نزار الحميدي، السيد التوي، عبد الواحد السويح... وكذلك بمعية زملائي من حركة التسعينات مثل ميلاد فايزة ورضا العبيدي وفتحي قمري ومحمد جلاصية وعادل جراد وبمعية زملائي من الحركة الشعرية الجديدة مثل: صابر العبسي، محمد العربي، سفيان رجب، وليد تليلي، أنور اليزيدي، أشرف القرقني، صبري الرحموني، محمد الناصر المولهي، ناظم بن إبراهيم... وغيرهم من الشعراء الجدد الذين منحوا الشعر التونسي مذاقا جديدا وحساسية عالية وغيروا خارطة المشهد برمّته.